العدالة.. التنوير والحرية أقانيم ثلاثة رصعت سفرة وجوده فعلي مذبح روح العدالة المفقودة والوعي الغائب أي المكونات الأساسية للإنسانية نذر مسيرة حياته صادحة بالعطاء السخي وبشغف نادر يسعي إلي المعرفة وتابعها التغيير، والقدرة علي تفعيل الأحلام من خلال طاقة ديناميكية شاهقة.. هو د.فؤاد عبدالمنعم رياض القاضي الدولي بمحكمة جرائم الحرب سابقا والأستاذ بكلية الحقوق جامعة القاهرة.. وهو يتقن منازلة الغريم الأزلي للارتقاء والنهضة.. الجمود .. الظلم والإظلام فكان كتابه المهم، والنفيس (هموم إنسان مصري) الذي صدر منذ عام ونيف محملا بإرهاصات ثورة 25 يناير، فهو بمثابة مرجع مكتظ بكل الآفات التي تنهش مجتمعنا ولكنه أيضا يضوي بالحلول الناجزة المفضية إلي إنجاح الثورة. وكما هو الحال دائما فالفكر والإبداع يسبقان الأحداث الفاصلة في التاريخ، فالكتاب هو حامل النبوءات والمشاعل فقبيل الثورة الفرنسية كانت أعمال روسو، مونتسكيو وفولتير وديدرو، فكان العقد الاجتماعي، وروح القوانين، وقبيل 25 يناير اندلعت بكائية فؤاد رياض لتبث حزنا قطراً علي ما آل إليه الوطن فهو بمثابة جسد مسجي استؤصل عقله وسلبت روحه وأيضا ثرواته ولكنها بكائية لاتحض علي اليأس بل علي شحذ الهمم، إيقاظ الضمير الإنساني، والوطني، صحوة منعشة وسط ركام الكوابيس الهادرة، فبروح شاعر، ووعي فيلسوف ونبل فارس وبراعة معماري وانتماء إنسان مصري، وطني أراد د. رياض أن يعيد بناء المجتمع الذي تقوضت أركانه ومسخت سماته تحت وطأة عقود نافقة من القهر، الهوان والتيه في وطن صارت قبلته الوحيدة هي المادة. لقد توحد المؤلف مع آلام البؤساء الذين لفظتهم الحياة الكريمة، والبؤس هو الفقر في أبشع أحواله لأنه مقترن بالهوان، الظلم والاستفزاز القادم مع الثراء المعربد »للاوليجارشيا« أي القلة المستفيدة، الانتهازية والمهيمنة، فالفقر في حد ذاته من الممكن احتماله بدون المؤثرات البغيضة الناضحة بالفحش والاستبداد وهذا ما يدينه د. رياض من خلال فكره الإنساني فهو يرصد الفجوة الشاهقة التي تفرق بين أبناء الوطن طبقة الأثرياء الجدد حيث البوليميا والنهم المادي والخواء الروحي والثقافي والفقراء الذين يركضون وراء لقمة العيش الشحيحة ولم يعد لديهم فائض للالتفات للسياسة ولمصير الوطن وبينهما طبقة وسطي نحرت وهي كانت صمام الأمان وبوتقة التطور في أي مكان فهبطت من الأعلي إلي الأدني. فهي الحاملة دوما لمشاعل التنوير والنهضة، وفي رجم د. رياض لهذا المجتمع الغارق في المادية القبيحة والفساد البين أذكر طبائع الاستبداد للكواكبي فيقول: »أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وخالي الذل، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي وحياتي فالمال، المال، المال« ويرصد قاضي القضاة كارثة أمية الوعي فهي أخطر من أمية القراءة والكتابة، أنصاف المثقفين وأدعياء العلم الذين يهبطون بالوطن إلي هوة سحيقة ويدين تجريف الأرض الزراعية 2 مليون فدان وتجريف المرأة وأيضا الإنسان بشكل عام الذي لا يملك أنياب السلطة والثروة وهكذا يتم امتطاء شعب بأسره ذات يوم صدر الحضارة المهيبة للعالم أجمع. وينكر رجل القانون النابه نظرية المؤامرة التي يتاجر ويتنصل من خلالها الجميع وأوافقه تماما، فالمؤامرة هي صناعة مصرية ويقول د. رياض إن أخطر ما يصيب أمة »الإبادة الذاتية« أو (الاوتوجينوسيد« فنحن الذين نخرب، ندمر، نجرف، نصحر، فنعاني الانشطار الانقسام، الشوارد الحرة في محاكاة للسرطان حيث تنقلب خلايا الجسد ذاته، تتوحش لتصبح ألد الأعداء. والمؤلف يترنم محلقا بروح العدالة فهي فوق القانون وأذكر البؤساء لهوجو حيث العقاب هو من نصيب المعذبين في الأرض، المحرومين، المعدمين أما من ينعمون بزينة الحياة فهم في منأي عن العقاب، والقصاص، ود. رياض ليس مثل يوحنا المعمدان الذي كان يصرخ في البراري دون جدوي فلقد نجح بعسر في منح أبناء الأم المصرية الجنسية المصرية، ويطالب بإلغاء الديانة من بطاقة الرقم القومي، والتمييز الإيجابي للأقباط وللمرأة. وتفعيل قانون الاضطهاد (persecution) علي أساس الدين، العرق، اللون والجنس ويرصد الشروخ التي تعصف بتماسك الوطن بل بقائه إلي شرخ طبقي وهو ثراء معربد وفقر مدقع، شرخ ديني، من خلال أبلسة الآخر، وأزمة المواطنة، وإهدار طاقات المجتمع في قضايا بائرة، بائدة وأستشهد بمدينة القسطنطينية التي اقتحمها الغزاة وكانوا منشغلين بما إذا كان الملاك ذكرا أم أنثي!! وشرخ الجنس، المرأة والردة التي أصابتها ثم الشرخ الزمني، التلحف بدثار الماضي والتواري في كهوف الأزمنة الغابرة لعجز سافر في مواكبة إنجازات وتجليات العصر فأصبحنا مثل امرأة لوط التي نظرت إلي الوراء فصارت من الغابرين، لننشغل بالجلباب، النقاب والزبيبة وتقطيع الأوصال! ثم شرخ أهل الثقة وأهل المعرفة أو الولاء والكفاءة وتربع المديوكر علي قمة المشهد المتهاوي. ويصف مذابح الأبرياء التي تقترفها إسرائيل وكأنما هي حالة ارتجاع وانتقام من البشرية. وفي قلب تلك الصفحات المجوهرة يرثي حصولنا علي صفر في البحث العلمي، واستضافة كأس العالم وينعي بأسي ما آلت إليه حرية التعبير والفرقة الرجيمة التي تستدعي تغيير الخطاب الديني، الإعلامي والتعليم، أيضا مشكلة المياه يرصدها. ويؤكد أن إنشاء محاكم دولية للجرائم ضد الإنسانية ومجرمي الحرب برهان علي يقظة الضمير العالمي، وعند قراءتي لهموم د. رياض احتلتني كلمات جبران: »المحبة أشكال مختلفة: فهي الحكمة آنا، والعدل آونة، والأمل أخري«. »إن وراء مظالم هذا العالم، وراء المادة، وراء الغيوم، وراء الأثير وراء كل شيء قوة هي كل عدل وكل شفقة وكل حنو وكل محبة« وأخيرا اقرأوا كتاب د. رياض لكي لاتنطفأ جذوة الثورة وتصبح مجرد رحيل فرد وبقاء نظام عتيد في الطغيان غرس أنيابه الملوثة في رحم وخلايا الهواء، الماء، الطعام، الأرض، العقيدة، التراث، الهوية، هيبة القانون، الوعي، والضمير الإنساني المصري.