سعر الذهب اليوم في مصر يرتفع بمنتصف تعاملات السبت    غرامات رادعة.. النقل تفعل عقوبات استخدام حارة الأتوبيس الترددي على الدائري    البيت الأبيض: دونالد ترامب لا يعتزم التحدّث إلى إيلون ماسك    الولايات المتحدة تفرض عقوبات على شبكة إيرانية لغسل الأموال    وزير العمل يهنئ فلسطين بعد اعتمادها "دولة مراقب" في منظمة العمل الدولية    محمد هاني عن لقاء إنتر ميامي: "نؤمن بقدرتنا على تحقيق نتيجة إيجابية"    مقتل شاب بطلق ناري غامض في قرية أبوحزام شمالي قنا    الخلاصة.. أهم أسئلة علم النفس والاجتماع لطلاب الثانوية العامة    حفلة بدار الضيافة وملابس جديدة.. الداخلية تدخل الفرحة إلى قلوب الأيتام فى عيد الأضحى    أول تعليق من أسما شريف منير بعد زواجها: فهمت محتاجة إيه من الجواز    أول رد من إسماعيل الليثي على اتهامه بضرب زوجته وسرقة أموالها (فيديو)    الصحة: تكلفة علاج 1.4 مليون مصري على نفقة الدولة تتخطى 10 مليارات    الرعاية الصحية: 38 مستشفى و269 مركز طب أسرة جاهزة لخدمة المواطنين خلال عيد الأضحى    من الصداقة للعداء.. خلاف «ترامب» و«ماسك» يُسلط الضوء على التمويل الحكومي ل«تسلا» و«سبيس إكس»    دعاء يوم القر مستجاب للرزق والإنجاب والزواج.. ردده الآن    في ثاني أيام العيد.. مصرع شخص وإصابة آخر في انقلاب سيارة بأسيوط الجديدة    إبداعات متطوعي شباب كفر الشيخ في استقبال رواد مبادرة «العيد أحلى»    هل ترتفع اسعار اللحوم بعد العيد ..؟    بعد الرد الروسي الحاد.. ألمانيا تعيد تقييم موقفها تجاه الأسلحة بعيدة المدى لأوكرانيا    اليابان: لا اتفاق بعد مع الولايات المتحدة بشأن الرسوم الجمركية    محافظ أسيوط يشارك احتفالات عيد الأضحى في نادي العاملين (صور)    في ثاني أيام العيد.. إصابة 4 أبناء عمومة خلال مشاجرة في سوهاج    القبض على المتهم بقتل والدته وإصابة والده وشقيقته بالشرقية    أسعار البيض والفراخ اليوم السبت 7 يونيو 2025 في أسواق الأقصر    مجانًا خلال العيد.. 13 مجزرًا حكوميًا بأسوان تواصل ذبح الأضاحي    إيرادات ضخمة ل فيلم «ريستارت» في أول أيام عيد الأضحى (تفاصيل)    أواخر يونيو الجاري.. شيرين تحيي حفلًا غنائيًا في مهرجان موازين بالمغرب    محمد الشناوي: كنا نتمنى حصد دوري أبطال إفريقيا للمرة الثالثة على التوالي    دار الإفتاء تكشف آخر موعد يجوز فيه ذبح الأضاحي    الأزهر للفتوى يوضح أعمال يوم الحادي عشر من ذي الحجة.. أول أيام التشريق    الطبطبة على الذات.. فن ترميم النفس بوعى    رسميًا.. جون إدوارد مديرًا رياضيًا لنادي الزمالك    الأسهم الأمريكية ترتفع بدعم من بيانات الوظائف وصعود «تسلا»    10 نصائح لتجنب الشعور بالتخمة بعد أكلات عيد الأضحى الدسمة    الصحة تنظم المؤتمر الدولي «Cairo Valves 2025» بأكاديمية قلب مبرة مصر القديمة    أسعار الحديد اليوم في مصر السبت 7-6-2025    دوناروما: أداء إيطاليا لا يليق بجماهيرنا    استقرار أسعار الذهب في مصر خلال ثاني أيام عيد الأضحى 2025 وسط ترقب الأسواق العالمية    بعد خلافه مع ترامب.. إيلون ماسك يدعو إلى تأسيس حزب سياسي جديد    محمد هانى: نعيش لحظات استثنائية.. والأهلي جاهز لكأس العالم للأندية (فيديو)    "مش جايين نسرق".. تفاصيل اقتحام 3 أشخاص شقة سيدة بأكتوبر    محمد عبده يشيد ب " هاني فرحات" ويصفه ب "المايسترو المثقف "    ريابكوف: ميرتس يحاول إقناع ترامب بإعادة واشنطن إلى مسار التصعيد في أوكرانيا    مباحثات مصرية كينية لتعزيز التعاون النقابي المشترك    «الدبيكي»: نسعى لصياغة معايير عمل دولية جديدة لحماية العمال| خاص    محاضرة عن المتاحف المصرية في أكاديمية مصر بروما: من بولاق إلى المتحف الكبير    الثلاثاء أم الأربعاء؟.. موعد أول يوم عمل بعد إجازة عيد الأضحى 2025 للموظفين والبنوك والمدارس    سفارة الهند تستعد لإحياء اليوم العالمي لليوجا في 7 محافظات    «المشكلة في ريبيرو».. وليد صلاح الدين يكشف تخوفه قبل مواجهة إنتر ميامي    المطران فراس دردر يعلن عن انطلاق راديو «مارن» في البصرة والخليج    زيزو: جيرارد تحدث معي للانضمام للاتفاق.. ومجلس الزمالك لم يقابل مفوض النادي    معلومات من مصادر غير متوقعة.. حظ برج الدلو اليوم 7 يونيو    «المنافق».. أول تعليق من الزمالك على تصريحات زيزو    سالى شاهين: كان نفسى أكون مخرجة سينما مش مذيعة.. وجاسمين طه رفضت التمثيل    الكنيسة الإنجيلية اللوثرية تُعرب عن قلقها إزاء تصاعد العنف في الأراضي المقدسة    البابا تواضروس يهاتف بابا الفاتيكان لتهنئته بالمسؤولية الجديدة    بمشاركة 2000 صغير.. ختام فعاليات اليوم العالمي للطفل بإيبارشية المنيا    تفشي الحصبة ينحسر في أميركا.. وميشيغان وبنسلفانيا خاليتان رسميًا من المرض    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مازال إبراهيم أصلان مثيراً‮ ‬للدهشة
نشر في آخر ساعة يوم 18 - 06 - 2016

لا استطيع أن أتذكر إبراهيم أصلان إلا عبر اندهاشاته المتكررة تجاه كثير مما يحدث‮ ‬،وجميع من عرفوه واقتربوا منه وحاوروه واشتبكوا معه في حوارات مطولة،‮ ‬يدركون أن له أكثر من‮ "‬لازمة‮" ‬عنده من لوازم ذلك الاندهاش،‮ ‬مثل‮ :"‬لا يارااااااااااجل‮"‬،‮ ‬و"لا ياشيييييخ‮"‬،‮ ‬و"ياقووووووة الله‮"‬،‮ ‬وغيرها من اللزمات التي كانت تتواتر عنده بتواتر المواقف والمشاهد التي تتوارد في الحياة وفي الأحاديث المتبادلة معه دوما،‮ ‬ولم تكن تلك اللوازم تختلف في الأحاديث التليفونية،‮ ‬أو في الحوارات المباشرة،‮ ‬فعندما يطلق إحدي لوازمه تلك في التليفون،‮ ‬لا بد أن يكون ابراهيم أصلان ماثلا أمامك‮ ‬كاملا وقد تغيّرت ملامح وجهه حسب الموقف المطروح،‮ ‬أحيانا يكون الموقف مؤسفا ويثير الامتعاض أو الحزن أو السخرية،‮ ‬وأحيانا يكون مبهجا فيثير السرور والسعادة،‮ ‬ودائما كانت تختلط شخصيات حكايات أصلان،‮ ‬ويستطيع بمهارة حكاء مصري أصيل،‮ ‬أن يضع ظاهرة أدبية كبيرة مثل رجاء النقاش،‮ ‬في حكاية واحدة مع شخص اسمه‮ "‬فرج‮"‬،‮ ‬وعندما تستمع إلي الحكاية،‮ ‬عليك أن تعتبر أن‮ "‬فرج‮" ‬هو إحدي شخصيات أصلان الأثيرة والمدهشة كذلك‮.‬
وتبدأ الحكاية عندما التقي إبراهيم أصلان مع الناقد رجاء النقاش علي سلالم دارالهلال العريقة،‮ ‬تلك السلالم التي تشعرك فعلا بالأبهة والفخامة التي كانت تتمتع بها تلك الدار،‮ ‬وكذلك تعيد لمخيلتك كبار الأعلام الذين صعدوا علي تلك السلالم مثل كامل زهيري وأحمد بهاء الدين وفكري أباظة وسلامة موسي وغيرهم،‮ ‬علي تلك السلالم رحّب رجاء النقاش بشدة علي أصلان،‮ ‬فما كان من إبراهيم إلا أن يردّ‮ ‬التحية بمثلها،‮ ‬وكان رجاء النقاش في ذلك الوقت‮ ‬غير محبوب من المثقفين،‮ ‬وكانوا يعتبرونه رجل الحكومة في الثقافة،‮ ‬ويشككون دوما في نواياه تجاه المثقفين،‮ ‬ويكفي أن تقرأ ما كتبه الفاجومي عنه في مذكراته،‮ ‬وما كتبته صافيناز كاظم عنه كذلك،‮ ‬وتصويره بأنه كان يريد تجنيد الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم لخدمة الحكومة‮ ‬،وهناك حكاية أخري كانت معروفة في السبعينيات،‮ ‬عندما اعترض يحيي الطاهر عبدالله علي وجود رجاء النقاش في مقهي‮ "‬ريش‮" ‬وهدده بطريقة عنيفة،‮ ‬ومنعه من العودة إلي‮ "‬ريش‮" ‬أبدأ‮.‬
في ذلك اللقاء الذي حدث بين النقاش وأصلان،‮ ‬طلب النقاش قصصا للنشر في مجلة‮ "‬الدوحة‮"‬،‮ ‬وردّ‮ ‬عليه أصلان بأنه سيرسل له خمس قصص جديدة،‮ ‬ومرّ‮ ‬اللقاء دون أن يتواصل الإثنان،‮ ‬أو يلتقيا،‮ ‬هنا يظهر دور‮ "‬فرج‮"‬،‮ ‬والذي يصفه أصلان بدقته المعهودة في وصف شخصياته بأطوالهم وأحجامهم وإيماءاتهم،‮ ‬إذ أنه في أحد الأيام بعد وكان إبراهيم في منزله بالكيت كات،‮ ‬سمع أحدا يهتف‮ :"‬يا ابراهيييم يا ابراهييييييم‮ "‬،‮ ‬وعندما نزل إبراهيم‮ ‬،‮ ‬وجد أمامه‮ "‬فرج‮"‬،‮ ‬وقال له‮ :"‬فيه إيه يا فرج‮"‬،‮ ‬وردّ‮ ‬عليه فرج‮ " ‬وكان نقدا سينمائيا علي قدّه كما يقول أصلان‮": ‬ياعم،‮ ‬الأستاذ رجاء النقاش قالب عليك الدنيا،‮ ‬وكلفني بالبحث عنك‮ ‬،علشان القصص اللي انت وعدته بيها،‮ ‬ومن هنا جاءت العلاقة الوطيدة التي ربطت بين أصلان والنقاش،‮ ‬وكانت الثمرة أن نشر أصلان عددا من قصصه في مجلة‮ "‬الدوحة‮"‬،‮ ‬وهي علي التوالي‮ "‬الصاحبان في مايو‮ ‬1981،‮ ‬وجلباب صغير أزرق في نوفمبر‮ ‬1982،وحفنة نور في يونيو1983،والعم محمد في نوفمبر‮ ‬1983،‮ ‬والسلالم في ديسمبر‮ ‬1985،و وردية ليل في فبراير‮ ‬1986،ومشوار في يونيو‮ ‬1986‮".‬
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد‮ ‬،بل أن رجاء النقاش كان دائم التواصل مع أصلان‮ ‬،وهو الذي رشحه للإشراف علي القسم الثقافي بالقاهرة في جريدة‮ "‬الحياة‮"‬،‮ ‬وعندما أبدي أصلان بعض التردد من هذا العمل‮ ‬،حيث أنه لم يعمل صحفيا من قبل‮ ‬،إلا أن النقاش قال له‮ :" ‬ليس المطلوب أن تكون صحافيا‮ ‬،ولكن المطلوب هو اسمك المحترم‮"‬،‮ ‬كان أصلان يكنّ‮ ‬اعتزازا خاصا لرجاء النقاش‮ ‬،‮ ‬ليس لأنه نشر له أو رشحه للعمل في جريدة‮ "‬الحياة‮"‬،‮ ‬ولكنه كان يري في رجاء النقاش موهبة صحافية ثقافية فريدة من نوعها‮ ‬،ومن القلائل الذين يعرفون ابتكار ظواهر ثقافية في الصحافة‮ ‬،يقول أصلان ذلك‮ ‬،وهو يرثي بعضا من حالنا في الصحافة الثقافية‮.‬
غرفة ابراهيم أصلان النظيفة والصغيرة جدا
في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات‮ ‬،كنا‮ ‬جيل السبعينيات نبحث عن منافذ للنشر خارج القاهرة‮ ‬،حيث أن فرص النشر في المجلات المصرية تضيق رويدا رويدا‮ ‬،وكانت مجلة الشعر المصرية تزداد سوءا‮ ‬،وأغلقت مجلتا الكاتب والطليعة‮ ‬،ولم تبق سوي ظاهرة مجلات الماستر‮ ‬،‮ ‬وفي مواجهة ذلك راح الكتّاب المصريون يرسلون إبداعاتهم ومقالاتهم إلي المجلات العربية‮ ‬،وكان الأستاذ صلاح عيسي يراسل مجلة‮ "‬الثقافة‮" ‬العراقية‮ ‬،وهناك مواد ثقافية وإبداعية كثيرة نشرت هناك‮ ‬،ولم تكن‮ "‬الثقافة‮" ‬هي المنفذ الوحيد للنشر في العراق‮ ‬،بل كانت هناك مجلات‮ "‬الأقلام وآفاق عربية والطليعة الأدبية‮"‬،وغيرها من مجلات‮ ‬،وكذلك نشر كثير من الكتّاب المصريين كتبا لهم في وزارة الثقافة العراقية‮ ‬،مثل مجموعة‮ "‬الدف والصندوق‮" ‬القصصية ليحيي الطاهر عبدالله‮ ‬،ورواية‮ "‬أصوات‮" ‬لسليمان فياض‮ ‬،‮ ‬و"حرّاس البوابة الشرقية‮" ‬لجمال الغيطاني‮ ‬،‮ ‬وديوان‮ "‬كتاب الأرض والدم‮" ‬للشاعر محمد عفيفي مطر‮ ‬،وغير ذلك من روايات وقصص وأشعار،وقيل لي‮ ‬في ذلك الوقتبأن ابراهيم أصلان كان يراسل مجلة‮ "‬البيان‮" ‬الكويتية‮ ‬،وعندما سألت عن مكتب مجلة‮ "‬البيان‮" ‬فقيل لي‮ :"‬اذهب له في الهيئة القومية للاتصالات السلكية واللاسلكية‮" ‬في شارع رمسيس،‮ ‬وبالفعل ذهبت إليه هناك‮ ‬،وعندما سألت عنه‮ ‬،وجدت الذين يعملون في‮ "‬البوابة‮" ‬يعرفونه جيدا‮ ‬،وربما كانوا قد تعودوا علي تردد الكثيرين عليه‮ ‬،‮ ‬وكانت تلك الهيئة تنقسم إلي ثلاثة أبنية‮ ‬،‮ ‬وقد كتب إبراهيم عن تلك الأبنية في قصصه‮ ‬،‮ ‬وأول ما يواجهك هو‮ ‬المبني الفخيم الذي يقطن فيه رئيس مجلس الإدارة‮ ‬،ثم الإدارات العليا الأخري‮ ‬،‮ ‬وهو مبني قديم وكلاسيكي‮ ‬،وتبدو عليه علامات الأبهة العريقة‮ ‬،حيث السلالم العريضة جدا‮ ‬،‮ ‬والطرقات‮ .‬الطويلة‮ ‬،والغرف الخشبية المخصصة للمديرين والسكرتاريات والموظفين التابعين للإدارات‮ ‬،وهناك مبني حديث‮ ‬،وهذا عندما توسعت الهيئة بشكل كبير،‮ ‬فكان هذا المبني الذي جاء لاستيعاب العمالات الجديدة‮ ‬،والأعمال المستحدثة في الهيئة‮.‬
وهناك المبني الثالث‮ ‬،والذي كان يعمل فيه إبراهيم أصلان‮ ‬،ويطلقون‮ ‬هناك علي ذلك المبني‮ "‬عمارة الأوتو‮"‬،‮ ‬وعندما صعدت لإبراهيم في الدور الثالث‮ ‬،وكان هذا هو اللقاء الأول لي معه‮ ‬،كان بشوشا ومرحبا وأخّاذا بالفعل‮ ‬،‮ ‬وبعيدا عن هيئته المثيرة بشعره الكثيف وشاربه الكبير،‮ ‬لكن ترحيبه يوحي بأنه شديد الطيبة‮ ‬،وتشعر بأنك أمام‮ "‬واحد ابن بلد‮" ‬،وأخذ مني القصيدة‮ ‬،ووعد بإرسالها للمجلة‮ ‬،وسوف يبلغني بنشرها عندما أزوره بعد شهر‮ ‬مثلا.
تشاء الأقدار فيما بعد‮ ‬،وألتحق للعمل في‮ ‬3‮ ‬يوليو عام‮ ‬1983‮ ‬بتلك الهيئة‮ ‬،وكانت سعادتي‮ ‬غامرة بأنني سأري‮ ‬إبراهيم‮ ‬أصلان بوفرة،‮ ‬وبالفعل كنت أذهب إلي‮ ‬غرفته الصغيرة‮ ‬،والتي لم أدرك تفاصيلها جيدا إلا بعد ترددي عليه وعليها كثيرا‮ ‬،‮ ‬كنت أعمل في قسم التحويلات،‮ ‬وكان هو يعمل في قسم‮ "‬الإداريات‮"‬،‮ ‬وكان من المفترض أن يذهب أحد العاملين لإحضار الوارد من البرقيات الأجنبية‮ ‬،وكان المختص بالإشراف علي هذا الوارد هو‮ ‬إبراهيم‮ ‬أصلان نفسه‮ ‬،‮ ‬ولكنني وجدتها فرصة يومية للذهاب حتي ألتقي به‮ ‬،وكان هذا الوارد عبارة عن كل البرقيات التي تأتي من شتي أنحاء العالم‮ ‬،وكان‮ ‬إبراهيم‮ ‬هو المسئول عن مراجعة تلك البرقيات‮ ‬،والتأكد من صحة العناوين المرسلة إليها،‮ ‬ووضوح الكلمات‮ ‬،ولو ظهر فيها أي خطأ‮ ‬،فعليه أن يعيدها إلي المصدر الأساسي الذي أرسلها‮ ‬،وبعد التأكد من صحة كل ما يخص البرقيات‮ ‬،كان يضعها في أسطوانة طويلة‮ ‬،ويرسلها إلي مكتب‮ "‬تحويلات مصر‮"‬،‮ ‬الذي كنت أعمل فيه‮.‬
كان‮ ‬إبراهيم أصلان يعمل ساعات قليلة‮ ‬،وكان يقول لي‮ :"‬علي قدّهم‮"‬،‮ ‬وكنت أذهب إليه وهو يراجع البرقيات‮ ‬،‮ ‬وكان يقرأ البرقيات بعناية فائقة‮ ‬،وكثيرا ما كان يندهش من بعض تلك البرقيات‮ ‬،وكان يبدي ملاحظاته الذكية والاستثنائية‮ ‬،وأعتقد أنه كان يعيش مع البرقيات تماما‮ ‬،‮ ‬ويتعرّف من خلالها علي صفات جديدة عند المصريين‮ ‬،وكان يتوقف كثيرا عند بعض الصياغات الخاصة جدا‮ ‬،ويلتفت لي ويقول‮ :"‬بصّ‮ ‬يا أخي‮ ‬،شئ مذهل‮"‬،وكان البعض يطلّ‮ ‬عليه من باب الغرفة،‮ ‬ويقول‮ :"‬إزيك ياعم ابراهيم‮"‬،‮ ‬فيرد إبراهيم‮ ‬‮:"‬يا مرحب يا مرحب‮ ..‬اتفضااال‮" ‬ورغم الآلية التي كان يردد بها ابراهيم أصلان علي زملائه‮ ‬،إلا أنك لا تشعر بتلك الآلية علي وجه الإطلاق،‮ ‬لأن المحبة التي كانت تربط بينه وبين زملائه‮ ‬،كانت تفوق أي محبات في محيط أي عمل‮ ‬،وفي إحدي السلامات‮ ‬،قال لأحد المارين عليه‮ :"‬اتفضاااااال‮"‬،‮ ‬وكان إبراهيم يتابع إحدي برقيات الاستغاثة المدهشة‮ ‬،‮ ‬وما كان من ذلك الزميل إلا أن يدخل في الغرفة الضيقة جدا‮ ‬،‮ ‬ويزاحمنا في المكان‮ ‬،وإذ بإبراهيم أصلان يرفع عينيه عن البرقية‮ ‬،ويقول للزميل‮ :"‬هو الواحد أول ما يقولك اتفضل‮ ‬،تتفضل كده علي طول‮"‬،‮ ‬ورغم أنه كان يعني ما يقول تماما إلا أنه كان يتحدث في ابتسام‮ ‬،خفّف كثيرا من إحراج الزميل الذي شاركنا الابتسام حتي الضحك والقهقهة الشهيرة عند أصلان‮.‬
المدهش في الأمر أن‮ ‬غرفة إبراهيم أصلان في عمارة الأوتو،‮ ‬والتي ما زالت قائمة حتي الآن‮ ‬،وهناك من العاملين والزملاء ما زالوا يتذكرونها جيدا‮ ‬،‮ ‬كانت‮ ‬غرفة ضيقة جدا‮ ‬،تتسع بالكاد لشخصين أو ثلاثة فقط‮ ‬،وكان دائما يصحب معه بعض الكتب لقراءتها هناك‮ ‬،‮ ‬والأكثر إدهاشا أن تلك الغرفة انتقلت معه في مكتب صحيفة‮ "‬الحياة‮" ‬الذي كان يعمل فيه‮ ‬9‮ ‬شارع رستم بجاردن سيتي‮ ‬،‮ ‬وكان التشابه عظيما‮ ‬،‮ ‬وهناك فوارق طبقية فقط‮ ‬،وكانت‮ ‬غرفته في الجريدة تحمل اسمه بالإضافة للاسم الذي يشير إلي الغرفة‮ ‬،وكان يعلّق أحد بورتريهات صديقه الأعزّ‮ ‬الراحل‮ ‬غالب هلسا علي زجاج النافذة‮ ‬،وكذلك صورة توفيق الحكيم الذي كان يكنّ‮ ‬له معزة خاصة جدا‮ ‬،ولذلك كانت مقدمته لكتب‮ "‬مكتبة الأسرة‮" ‬هي بعث آخر للحكيم،حيث نسب أصلان فكرة المشروع الأولي له‮.‬
أتمني أن يفعلها واحد من الذين يصنعون الأفلام التسجيلية‮ ‬،ويذهب إلي‮ ‬غرفته القديمة‮ ‬،ويجري حوارا مع بعض من تبقي من زملاء إبراهيم القدامي‮ ‬،والمحبين له‮ ‬،والعارفين بتفاصيل شديدة الثراء عن واحد من أنبل كتّاب مصر ومبدعيها‮.‬
تفاصيل أخري دافئة
أ
علاقة إبراهيم أصلان بولديه هشام وشادي‮ ‬،علاقة نموذجية‮ ‬،وكان دائما ما يدسّ‮ ‬حكاية أو حكايتين عنهما في حكاياته الكثيرة‮ ‬،‮ ‬وكان دوما مشغولا بهما‮ ‬،‮ ‬وكأي أب كان يبحث لهما عن كل ما يجعل مستقبلهما‮ ‬،‮ ‬يختلف عن ما عاشه هو من مآزق كثيرة في حياته‮ ‬،وبالطبع فحكايات هشام وشادي تكاد تكون معروفة لكل من اقترب من أصلان‮ ‬،واستمع له،‮ ‬ودارت الحوارات الليليلة بينهما‮ ‬،‮ ‬وقبل أن أري"هشام‮" ‬كنت استمع لإبراهيم عندما يحكي عنه‮ ‬،وكذلك كنت أذهب معه وهو يبحث له عن شقة‮ ‬،حيث أن‮ "‬هشام‮" ‬كان مقبلا علي الزواج‮ ‬،وواجهتنا عدة طرائف تخصّ‮ ‬أسعار الشقق ومواصفاتها‮ ‬،وفي إحدي المرّات وكنا نعاين إحدي تلك الشقق‮ ‬،ونطق البوّاب برقم مرتفع جدا للشقة‮ ‬،واندهش إبراهيم جدا من الرقم‮ ‬،‮ ‬وتابع البوّاب وهو يقوله‮ :"‬انت مستغرب ليه ياحاج‮ ‬،‮ ‬دا تمن الباب لوحده عشرين ألف جنيه‮"‬،‮ ‬ولكن إبراهيم أصلان ازداد اندهاشا‮ ‬،وردّ‮ ‬علي البواب وهو في حالة ذهول‮ :"‬عشرين ألف جنيه ليه ؟‮ ‬،هو باب زويلة ولا باب زويلة‮ ‬،‮ ‬يا للا ياراجل بلاش مسخرة‮"‬،‮ ‬وسرنا ونحن نضحك من تلك المفارقات العجيبة‮ ‬،‮ ‬حيث أن إبراهيم نفسه‮ ‬،‮ ‬الذي كان يبحث عن مسكنين تمليك لولديه‮ ‬،كان يسكن في شقة بالإيجار الجديد بالمقطم‮.‬
ب
كان إبراهيم أصلان محّبا عظيما لأبناء جيله‮ ‬،حتي لو كان مختلفا مع بعضهم‮ ‬،‮ ‬شعوره تجاه جمال الغيطاني كان أنيقا‮ ‬،وهو مصدر للنظام والجدية‮ ‬،وكتب عنه في‮ "‬خلوة الغلبان‮" ‬بأنه كان يسلّمه كل المتعلقات المهمة في أسفارهما معا،‮ ‬مثل جواز السفر وتذكرة الطيران وخلافه،‮ ‬وبحكم قربي من الاثنين كنت أعرف المودات التي كانت تجمعهما‮ ‬،وكانا يتهاتفان دائما في الليل البعيد‮ ‬،ربما كانت ليليات إبراهيم أصلان الهاتفية قد اتسعت كثيرا لتشمل خيري شلبي وسامي خشبة وجمال الغيطاني ومحمد البساطي وغيرهم‮ ‬،‮ ‬وكان أصلان دائم الدأب في التفتيش عن قصص مؤثرة تخص أبناء جيله‮ ‬،وقد كتب عن رفاقه محمد حافظ رجب وسيد خميس وعبد الحكيم قاسم وآخرين‮ ‬،‮ ‬وفي إحدي السنوات أقمنا في ورشة الزيتون مؤتمرا عن الراحل يحيي الطاهر عبدالله‮ ‬،وكانت بعض المتابعات الصحفية قد نقلت عنّي جملة تم تحريفها‮ ‬،كانت الجملة تقول‮ :"‬إن يحيي الطاهر كان مثيرا للغيرة لكثير من كتّاب القصة‮ ‬،وربما كان يغار منه بعض أبناء جيله‮"‬،‮ ‬ساعتها كان أصلان يكتب في جريدة‮ "‬الرياض‮" ‬،وكتب مقالا قصيرا‮ ‬،ولكنه عنيف ليردّ‮ ‬به علي جملتي المارقة‮ ‬،ولكنه‮ ‬دائما كان يكتب دون أي خروج عن سياق الرزانة‮ ‬،‮ ‬وعندما التقينا‮ ‬،تواددنا‮ ‬،وكأن لم يكن ماحدث قد حدث‮ ‬،وكان لإبراهيم كثير من العشم لطرح مسائل العتاب علي أصدقائه‮ ‬،وأذكر عندما نشر عمنا البساطي قصة‮ "‬حسونة الجميل‮" ‬في‮ "‬أخبار الأدب‮"‬،‮ ‬وكان واضحا جدا الرمز الذي يقصده البساطي‮ ‬،وكان قد شنّ‮ ‬هجوما ضاريا علي أحد قيادات وزارة الثقافة المرموقين آنذاك،‮ ‬ووصفه بعبارات حادة وموجعة‮ ‬،‮ ‬مما أحدث انزعاجا لدي‮ ‬ولدي الكثير من أصدقائه‮ ‬،وحينذاك هاتفه صديقنا الشاعر علي عطا‮ ‬،ولكن البساطي قال له‮ :"‬سيبني يا علي‮ ‬،‮ ‬أكتب اللي أكتبه‮ ‬،أنا هانتقم منهم كلهم‮"‬،‮ ‬كان هذا مزعجا للغاية لإبراهيم أصلان‮ ‬،وهاتفني يومها في الرابعة صباحا‮ ‬،وهو في قمة الاندهاش وقال‮ :"‬شفت الواد عامل إيه‮ ‬،شفت اللي كاتبه في أخبار الأدب‮ ‬،‮ ‬طب إيه ذنب القصة القصيرة؟،‮ ‬ولو عاوز يهاجم حد،‮ ‬يكتب مقال‮ ‬،‮ ‬بدل ما يكتب قصة قصيرة‮"‬،‮ ‬وبعدها بيومين هاتفه‮ ‬،وعاتبه بشدة من باب المحبة والعشم العميقتين بينهما‮ ‬،ودار بينهما كلام كثير جدا‮ ‬،‮ ‬يعرفه كل من اقترب من العظيمين أصلان والبساطي‮.‬
ج
ربما تكون علاقته بأبناء جيله لها عمق حميم جدا عنده‮ ‬،‮ ‬ففي إحدي الليليات هاتفني منزعجا جدا‮ ‬،‮ ‬حيث قرأ أحد الحوارات لأحد الكتّاب‮ ‬،‮ ‬وكان الحوار عن القصة القصيرة في مصر والعالم العربي‮ ‬،‮ ‬وكان ما أزعج إبراهيم أصلان‮ ‬،أن الحوار ذكر كبار وصغار الكتّاب دون أن يذكر اسمه علي الإطلاق‮ ‬،وكان ذلك مؤثرا جدا بالنسبة له‮ ‬،وعندما سألته‮ :"‬ولماذا الإنزعاج؟،‮ ‬وهل ذكر اسمك من عدمه سوف يزيد أو يقلل من شأنك؟‮"‬،‮ ‬فكان ردّه‮ :"‬أنا مش منزعج من عدم ذكري عشان ده هيزودني ولا ينقصني‮ ‬،أنا مش محتاج لده خالص يا راجل‮ ‬،‮ ‬ولكن أنا منزعج من المشاعر المختفية ورا عملية التجاهل ده‮ ‬،‮ ‬يا راجل أنا عمري ما ضايقت حد علي وجه الإطلاق‮"‬،‮ ‬كان إبراهيم يتحدث وهو حزين فعلا ومنزعجا إلي حد بعيد‮ ‬،وكان يردد‮ :"‬نفوس وحشة‮ ‬،ومليانة‮ ‬حقد‮"‬،‮ ‬ثم أردف قائلا‮ :"‬بصّ‮ ‬،وده اللي بيفرق الكاتب العظيم عن‮ ‬غيره‮ ‬،مفيش كاتب عظيم ونبيل‮ ‬،إلا وكانت خلفه نفسية عظيمة وروح نبيلة‮"‬،‮ ‬ورغم كل هذا الضيق‮ ‬،إلا أن علاقاته بمن حاولوا إيذاءه بأشكال متفاوتة كانت تعود‮ ‬،‮ ‬فهو المتسامح الذي لا يحمل أي ضغينة في روحه العظيمة‮.‬
د
في‮ ‬16ديسمبر‮ ‬2008‮ ‬أعدّ‮ ‬الأصدقاء مناقشة ديواني‮ "‬أحلام شيكسبيرية‮" ‬الصادر عن دار‮ "‬هيفين‮" ‬بمبادرة من الناقدة الدكتورة عفاف عبد المعطي‮ ‬،وذلك في مكتبة البلد‮ ‬،‮ ‬وناقش الديوان يومها الصديقان محمد بدوي وحسين حمودة وحلمي سالم وأمينة زيدان وآخرون‮ ‬،‮ ‬ورغم أنني أعرف أن‮ ‬إبراهيم‮ ‬أصلان كان نادرا ما يحضر ندوات‮ ‬،إلا أنني فوجئت بحضوره مع ابنه هشام‮ ‬،وكانت تلك المرة الأولي التي أري فيها‮ "‬هشام‮" ‬،‮ ‬وبالطبع كانت سعادتي بالغة‮ ‬،‮ ‬وقرر‮ ‬إبراهيم‮ ‬إقامة حفل صغير بهذه المناسبة في مقهي الجريون‮ ‬،وكانت معنا الكاتبة الصحفية الشابة مي أبوزيد‮ ‬،‮ ‬التي سبقتنا مع العم أصلان إلي هناك‮ ‬،‮ ‬وحضر هشام‮ ‬،وكانت أول مرّة أتعرف علي هشام جيدا‮ ‬،وأدهشتني بساطة‮ ‬إبراهيم‮ ‬في التعامل مع ابنه‮ ‬،‮ ‬لدرجة أنه طلب له زجاجة بيرة‮ ‬،وكان ذلك مثيرا بالنسبة لي‮ ‬،ويبدو أن دهشتي كانت مضحكة لإبراهيم كثيرا‮ ‬،‮ ‬كنت أتعلّم منه كيفية التعامل مع الأبناء فكان مفرطا في احتوائه وحبّه لأبنائه‮.‬
حكاية خارج السياق
كان‮ ‬إبراهيم‮ ‬لا يميل مطلقا إلي الرواج الإعلامي‮ ‬،وكان دوما يرفع شعارا يقول‮ :"‬ابعد عن الإعلام وغنّي له‮"‬،‮ ‬رغم أنه كان يسعد كثيرا بردود الفعل التي كانت تتواتر حول ما كان يكتبه في جريدة الأهرام‮ ‬،‮ ‬وفي أحد الأيام هاتفني الصديق العزيز حمدي رزق لكي يجري معنا مقابلة في قناة‮ "‬صدي البلد‮" ‬،ورشح‮ ‬إبراهيم‮ ‬أصلان ضيفا رئيسيا‮ ‬،والدكتورة شيرين أبو النجا وشخصي‮ ‬،‮ ‬واقترحت عليه الأمر‮ ‬،وفي البداية تردد العم‮ ‬إبراهيم‮ ‬،ولكنه لم يصرّعلي هذا التردد كثيرا‮ ‬،وكانت حجته بأنه ليس متحدثا جيدا‮ ‬،وهو لا يجيد عبارات الإعلام البراقة،‮ ‬وبعد إقناعه ذهبنا بالفعل‮ ‬،وقبل الدخول إلي الحلقة دار حوار جميل وطويل بينه وبين شيرين أبو النجا‮ ‬،وبالطبع كان الحوار طريفا كعادة شيرين وإبراهيم،‮ ‬حيث يضيفان كثيرا من ألوان الفكاهة حول جسد الموضوعات الجادة‮.‬
وعندما جلسنا أمام الكاميرا‮ ‬،واطمأن أصلان بأنه يجلس مع أحبّاء له‮ ‬،‮ ‬تحدث كما لم يتحدث من قبل‮ ‬،‮ ‬في الفن والأدب والحياة والفلسفة والفن التشكيلي‮ ‬،كان حوارا تاريخيا،‮ ‬وكان الأستديو‮ ‬نفسه يرقص علي إيقاعات‮ ‬إبراهيم‮ ‬أصلان‮ ‬،‮ ‬وعندما ذهبت للأستوديو نفسه مع الإعلامية رولا خرسا في وداع عم‮ ‬إبراهيم‮ ‬،كانت كل تفاصيله مختلفة وحزينة‮ ‬،وكأنه يبكي معنا‮ .‬
قبل المشهد الختامي
في مرضه الأخير،‮ ‬وكان في مستشفي‮ "‬قصر العيني الفرنساوي‮"‬،‮ ‬وكان يرتدي بيجامته المنزلية‮ ‬،‮ ‬ويداعب حفيده‮ "‬عمر‮" ‬بحب شديد،‮ ‬وكنا حوله هشام وشادي وأنا،‮ ‬وهنا أخرج‮ ‬إبراهيم‮ ‬ظرفا صغيرا‮ ‬،واستلّ‮ ‬منه ورقتين من فئة المائة جنيه‮ ‬،‮ ‬أعطي واحدة لهشام‮ ‬،وأعطي الثانية لشادي‮ ‬،ونظر لي في نظرة لا أستطيع نسيانها‮ ‬،‮ ‬وقال لي‮ :"‬أنا مكسوف أديك زيهم‮"‬،‮ ‬وضحكنا جميعا من فرط ذلك الحنان الكبير الذي كان يغمر به الجميع‮.‬
بعد خروجه من المستشفي‮ ‬،كان يتابع استكمال التشكيل النهائي لمكتبة الأسرة‮ ‬،وكان قد رشحني للانضمام لها‮ ‬،‮ ‬ولكن الظروف لم تسمح بذلك‮ ‬،‮ ‬وكنا نتهاتف بشكل مكثف حول الإصدارات التي اختارها‮ ‬،والتي سيقترحها علي اللجنة‮ ‬،وكان يستعين بمكتبتي وأرشيفي لما كان يختاره‮ ‬،‮ ‬وفي الليلة السابقة تماما للرحيل،‮ ‬هاتفته في الساعة الثانية صباحا‮ ‬،حيث أنه كان يريد صورة من كتاب‮ "‬الرؤية الإبداعية‮" ‬،‮ ‬وردّ‮ ‬هشام علي الموبايل،‮ ‬وأخذنا نتحدث معا‮ ‬،وبعدها رحنا نتحدث كثيرا حول الكتب التي رشحها،‮ ‬واقترحت عليه بعض الكتب،‮ ‬واخترت كتابا بعينه‮ ‬لا أذكره الآن لكي أكتب له مقدمة نقدية‮ ‬،وأعجبه الطرح‮ ‬،وكان آخر الكلام‮ :"‬خلاص أنا منتظرك‮ ‬،‮ ‬إوعا ما تجيش‮ ‬،‮ ‬انت بتوعد وبتخلف‮ ‬،‮ ‬ياللا‮ ..‬مع السلامة‮ ..‬مع السلامة‮"‬،‮ ‬وانتهت المكالمة‮.‬
في اليوم التالي‮ ‬7‮ ‬يناير‮ ‬2012‮ ‬الساعة الثانية تقريبا‮ ‬،‮ ‬كان جرس الموبايل يدق في إزعاج‮ ‬،‮ ‬وقرأت اسم السيدة‮ "‬أحلام‮" ‬زوجة صديقنا العزيز سعيد الكفراوي علي الشاشة‮ ‬،‮ ‬فانزعجت جدا‮ ‬،وخشيت أن أمرا يتعلق بسعيد،‮ ‬ورددت علي الموبايل في انزعاج‮ ‬،فقالت لي‮ "‬البقاء لله‮ ‬،‮ ‬ابراهيم أصلان تعيش انت‮" ‬،‮ ‬لم أتمالك نفسي علي الإطلاق‮ ‬،‮ ‬وكانت زوجتي الراحلة زينب الناغي جواري‮ ‬،وأنا منهار تماما،‮ ‬وكان أول رد فعل لي أن كتبت علي الفيس بوك‮:"‬ورحل العظيم‮ ‬إبراهيم‮ ‬أصلان‮"‬،‮ ‬ورافقتني ابنتي سوسن رحلة الذهاب إلي منزل العم إبراهيم‮ ‬،‮ ‬كنت أبكي طوال الطريق‮ ‬،‮ ‬وبعدما كتبت الخبر علي صفحتي‮ ‬،كنت أتلقي عشرات المكالمات‮ ‬،ولم أستطع‮ ‬بالطبع الردّ‮ ‬علي معظمها‮ ‬،‮ ‬عندما وصلت إلي المنزل‮ ‬،‮ ‬اخذني سعيد الكفراوي ممسكا بيدي‮ ‬،‮ ‬وهو لا يقلّ‮ ‬ذهولا عني‮ ‬،وقال لي‮ :"‬تعالي‮ ‬،‮ ‬تعالي شوف حبيبك‮ ‬،‮ ‬وبوسه‮" ‬،‮ ‬كانت لحظات قاسية جدا‮ ‬،وكان قد سبقني الصديق العزيز المخرج مجدي أحمد علي علي وابنه أحمد‮ ‬،كان مجدي كذلك شديد التأثر والذهول‮ ‬،‮ ‬ظللنا مأخوذين بالحزن‮ ‬،وتواترت جموع الأصدقاء والمثقفين‮ ‬،‮ ‬ليشكلوا شكلا فريدا من الوداع لأحد النبلاء العظام الذين مروا بكل محبة علي كوكب الأرض‮.‬
مشهد الختام
عند الوداع ذهبنا إلي مسجد‮ "‬بلال بن رباح‮" ‬في المقطم‮ ‬،وهناك من دخل للصلاة‮ ‬،وهناك من انتظر خارج المسجد،‮ ‬كان المشهد مهيبا بالفعل‮ ‬،‮ ‬شخصيات أدبية وثقافية وسياسية‮ ‬،وكاميرات تلفزيونية‮ ‬،وصحف يومية‮ ‬،وكان الجميع خاشعا أمام ذلك الوداع المدهش،‮ ‬وظل هذا المشهد حتي أن بلغنا في مسجد‮ "‬الشرطة‮" ‬اجتمعت كل الأطياف المتحابة والمتخاصمة والمختلفة‮ ‬،‮ ‬مثلما حدث منذ شهور قليلة في المسجد ذاته‮ ‬،وذلك في عزاء العم خيري شلبي في سبتمبر‮ ‬2011،وكان إبراهيم نفسه معنا‮ ‬،وكان قد مرّ‮ ‬بين الناس في العزاء كطيف‮ ‬،حيث أن خيري شلبي كان أحد المقربين جدا لديه،‮ ‬كان أصلان حزينا ومندهشا كأكثر حالات اندهاشه‮ ‬،‮ ‬وكان فقدي له فقدا خاصا ومؤلما وموجعا للغاية‮ ‬،‮ ‬ظللت فترة من الوقت عندما أتعرض لحادث ما،أو تفاجئني حكاية‮ ‬غريبة‮ ‬،أهرع لكي أطلبه‮ ‬،وأكتشف عدم وجوده الفيزيقي‮ ‬،‮ ‬هناك حكايات ماتت بداخلي لأنني لا أجد من أحكيها له‮ ‬،‮ ‬ويبادلني فكّ‮ ‬مغاليقها مثلما كان يفعل العم إبراهيم‮ ‬،وللأسف تداهمني تلك الحالات حتي الآن‮ ‬،وقد أضيف لأصلان في ذلك الشأن زوجتي التي رحلت كذلك،والتي كانت تفك شفرات بعض حكاياتي الصغيرة‮ ‬،حتي أصبحت الآن بلا آذان تسمعني إلا قليلا‮ .‬
بعد الرحيل‮ ‬
في زحام الرحيل‮ ‬،طلب مني الأصدقاء في الهيئة العامة لقصور الثقافة‮ ‬،‮ ‬إصدار كتاب عن عم‮ ‬إبراهيم‮ ‬،وحرت بالفعل في الكتابة،‮ ‬فالمادة الإنسانية التي بيني وبينه تمتد إلي ما لا نهاية،كذلك المادة النقدية التي كانت عنه واسعة جدا‮ ‬،بالإضافة إلي ما كتبه ولم يضمه في كتب من كتبه الصادرة‮ ‬،وفي سرعة حماسية أنجزت كتاب‮ "‬خلوة الكاتب النبيل‮"‬،‮ ‬وصدر بالفعل في الهيئة‮ ‬،ولاقي قبولا وترحيبا كبيرين من محبي أصلان وقرائه‮ ‬،وجمعت فيه بعض كتابات له وعنه،‮ ‬وكنا قد اتفقنا من قبل علي أنني سوف أضع أمامه ما قد ضاع منه بالفعل‮ ‬،‮ ‬ليعيد نشره كما هو،‮ ‬وهكذا نفذّت بعض وصيته في نشر ما كان يريد نشره،‮ ‬حتي يستطيع القارئ والباحث علي السواء أن يعرف مسيرته الفنية والأدبية بشكل واسع وعميق،‮ ‬وهنا أريد أن أصف بعضا من بعض ما حدث بعد رحيله في التأبين الذي أقيم له في جمعية محبي الفنون الجميلة‮ ‬،‮ ‬وتحدث فيها الدكتور والناقد الكبير حسين حمودة،‮ ‬وآخرون،‮ ‬وعندما تحدثت الكاتبة مي خالد لم تتمالك نفسها وانهارت تبكي علي المنصة‮ ‬،ولكنني فوجئت بإحدي الحاضرات تطلب الكلمة للحديث‮ ‬،وعرّفت نفسها بأنها محض قارئة لإبراهيم أصلان‮ ‬،وليست شاعرة ولا قاصة‮ ‬،‮ ‬وقد قرأت كل ما كتبه الراحل العظيم‮ ‬،ولشدة تعلقها بما كتبه‮ ‬،كانت بين الحين والآخر تستأجر تاكسيا‮ ‬،وتذهب لتتأمل الشوارع التي كان يكتب عنها أصلان في الكيت كات وامبابة‮ ‬،مثل شوارع فضل الله عثمان وقطر الندي والجيوش‮ ‬،وكانت دهشتنا بالفعل كبيرة لرجل الاندهاش الأعظم‮.‬
وفي هذه القصة التي تصاحب تلك الذكريات‮ ‬،‮ ‬نطالع مزيدا من الشوارع والشخصيات والأحداث الجانبية‮ ‬،‮ ‬ربما تكون تلك الرواية القصيرة المجهولة‮ ‬،بمثابة التمهيد للرواية الأشمل مالك الحزين‮ ‬،‮ ‬حيث أن العم مجاهد هنا‮ ‬،‮ ‬يتكرر في مالك الحزين‮ ‬،والشيخ حسني في‮ "‬مالك الحزين‮" ‬،كان الشيخ‮ "‬شعبان‮" ‬في تلك الرواية القصيرة‮ ‬،‮ ‬هكذا تصبح رواية‮ "‬عصفور علي أسلاك التروللي باس‮" ‬اكتشافا عجيبا في مسيرة إبراهيم أصلان‮ ‬العظيمة‮


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.