ما قرأت مرة عن طاغية عصره الحجاج بن يوسف الثقفي إلا وتداعي إلي خاطري الطغاة في كل العصور ومصيرهم المؤلم. ومامن مرة جاء ذكر الحجاج إلا وبدت لي عبر ضباب العصور محاكمته للتابعي الجليل سعيد بن جبير، فهو قدضاق ذرعا بنصائحه للحجاج أن يعدل بين الناس، وأن يتقي الله فيهم، فإذا به يأمر بالقبض عليه وإجضاره أمامه لمحاكمته، وأثناء هذه المحاكمة سخر منه كثيرا، والرجل صابر أشد ما يكون الصبر علي تعنت الحجاج وسخريته به وبجبروته الذي لا ينتهي به عند حد، فإذا به في نهاية حواره معه يأمر بقتله، ويضحك التابعي الجليل ويسأله الحجاج عما أضحكه فقال له: لأني عجبت من جرأتك علي الله، ومن حلم الله عليك. ويصيح الحجاج في رجاله: اقتلوه .. اقتلوه.. فيقول سعيد : إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. فيأمر الحجاج أن يوجهوا وجهه إلي غير القبلة. فيقول سعيد : فأينما تولوا فثم وجه الله. فيأمر الحجاج أن يكبوه علي وجهه، فيأتيه صوت سعيد »منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخري.. فأمر الطاغية بذبحه! ويتجه سعيد بكل كيانه إلي الله: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ثم قال للحجاج: خذها مني يا عدو الله حتي نتلاقي يوم الحساب : اللهم اقصم أجله، ولاتسلطه علي أحد يقتله بعدي. وتستجاب دعوة التابعي الجليل، ويمرض بعدها الحجاج مرضا يفقده عقله وصوابه، وكان كلما أفاق من الألم يقول لمن حوله: مالي ولسعيد بن جبير.. وبعد أيام قصيرة مات الحجاج بن يوسف الثقفي، وتحققت فيه دعوة سعيد، وصدق رسول الله([) إذ يقول: ثلاثة لاترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.