في العام الأخير من القرن الماضي قام مبارك بزيارة لمدينة بورسعيد وتقدم لموكبه مواطن يدعي أبو العربي لتقديم شكوي وسرعان ماتحولت الورقة التي يحملها إلي سلاح ومحاولة اغتيال حيث طارت الورقة من يده وتطايرت معها دماؤه بعد مسارعة طاقم حراسة الرئيس لإطلاق النار عليه فلقي حتفه، ومنذ ثلاثة أعوام تعرضت حرم الرئيس الإيطالي نابوليتانو لحادث سيارة عندما كانت تعبر الطريق حيث صدمتها سيارة تقودها سيدة عجوز فنقلت للمستشفي العسكري بينما تم التحقيق مع السيدة الأخري ثم أطلق سراحها، الفارق بين الحالتين صارخ وهو يكشف عن نمط التعامل الحضاري بين الحاكم والشعب الذي ظهر بجلاء في النموذج الثاني بينما اختفي في الأول حين يقيم الحاكم حوائط وجدران شاهقة وعازلة بينه وبين شعبه الذي لايعرف عنه شيئا إلا من خلال التقارير التي تقدم له دون أن تثير غضبه ويتحول لكائن أسطوري لايراه أحد. في الدول المتقدمة الحاكم هو إنسان عادي يعيش وسط الناس لفترة لاتمتد حتي موته علي كرسي الحكم، فوارق كثيرة بين نظم عفي عليها الزمن تستبد بشعوبها وأخري تنشأ باختيار مواطنيها ورضاهم، وهذا حلم ثورة 25 يناير الذي بدأ يري النور أن تنشا دولة عصرية علي أرض مصر تحفظ فيها حقوق مواطنيها ويشعرون بالأمني ويحاكمون أمام قاضيهم الطبيعي وتسود العدالة بين أطياف الشعب ويتم تداول السلطة وتمارس الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني دورها بحرية وفي النهاية أن تستعيد مصر دورها الذي غاب طويلا في المنطقة والعالم !! تمر الثورة هذه الأيام بمخاض عسير في طريقها المنشود نحو بناء الدولة العصرية التي يحلم بها ويريدها كل المصريين فالبناء القديم لازال موجودا علي أرض الواقع بتفاصيله المزعجة من الستار الحديدي الذي يتمثل في الجهاز الأمني وسطوته وقمعه والذي كبل المصريين بقيود جعلت حركتهم مشلولة في كافة المجالات وتوجه لخدمة النظام أكثر منه لخدمة الشعب، والمشكلة أن بناء هذا الجهاز من جديد علي أسس ومباديء سليمة سوف يستغرق الكثيرمن الجهد مما يعرقل عملية استقرارالأوضاع وانعدام الاحساس بالأمان في الشارع المصري لوقت طويل قادم لكن استقرارالوضع الدستوري والسياسي سوف يقصرهذا الأمد، أما الفساد فسوف تطول عملية اجتثاثه لتوغله في قطاعات كثيرة خاصة الجهاز الإداري والثقافة التي حكمته طويلا فأصابته بالتلوث والتشوه الأخلاقي بكل صوره وأشكاله، كما أن الثقة في النظام الجديد الذي سيولد بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية والدستور الجديد ستعتمد علي قدرته علي إتمام عملية اقتلاع واجتثاث الفساد من جذوره وعدم السماح لهذه الجذورأن تنبت من جديد علي أرض مصر من خلال استعادة دور القانون واستقلالية القضاء لملاحقة الفساد والمفسدين وكل صورالخروج علي القانون، أيضا من العقبات التي تواجه عملية التغيير الأوضاع المتدهورة في مجالات الصحة والتعليم والإسكان والخدمات بشكل عام وتراجع المعدلات الاقتصادية وغيرها وهذه من أكبر التحديات التي ستواجه الدولة في المستقبل القريب الحرية أولا من أولويات المرحلة القادمة إطلاق الحريات في كافة المجالات وفي مقدمتها حرية الرأي والمتمثلة في حرية تشكيل الأحزاب دون معوقات وبمجرد الإخطار فلم يكن من المنطقي في الحقبة الماضية أن من يتحكم في الترخيص للأحزاب هو الحزب الحاكم الذي تلاعب رجاله بالأحكام القضائية والتفوا عليها ولم يعد بالساحة السياسية سوي أحزاب كارتونية أو ديكورية لتجميل وجه النظام وعلي طريقة إثبات الحالة لوجود حياة حزبية بل وصل الحال بأحد رؤساء هذه الأحزاب الورقية للترشح للانتخابات الرئاسية الماضية وإعلان تأييده لمنافسه الرئيس السابق !! فالمطلوب هو تعددية حزبية حقيقية وتداول سلمي للسلطة فيكون من حق الحزب الذي يحظي بأغلبية حقيقية أن يصل للحكم وفقا للنظام السياسي الذي سيتم التوافق عليه بين مكونات الجماعة الوطنية في الدستور الجديد سواء كان برلمانيا أو رئاسيا وتمتد الحرية إلي حق التظاهر السلمي وأن يقوم الأمن بدوره فقط في تأمين المظاهرات والاجتماعات وبمجرد الإخطار وكذلك حرية العمل النقابي وتكوين الجمعيات الأهلية وانتخابات النقابات والجامعات وكافة منظمات المجتمع المدني كما تمتد المظلة إلي الصحافة والإعلام حيث تلغي كل العقوبات السالبة للحريات من القوانين بمختلف تصنيفاتها وأن يكون حق الانتخاب والترشح للانتخابات مكفولا للجميع وفق ضوابط القانون ونصوص الدستور ولاشك أن مناخ الحرية سوف يؤثر إيجابا علي كافة مجالات الحياة لأنه سيطلق ملكات الإبداع والإتقان ويشعر المواطن بأنه يعيش في بلد حر لايخشي علي نفسه وعلي أمنه لأنه لن يحاكم بقوانين استثنائية أو في ظل حالة أو قانون طواريء وسيمثل أمام قاضيه الطبيعي والمستقل الذي لايخضع لأي سلطة أخري خاصة التنفيذية كما كان الحال في الحقبة الماضية وتجارب الدول المتقدمة في مجال الحريات يثبت أن هذا المناخ الصحي كان من أهم أسباب تقدمها وتبوئها مكانة بارزة بين الأمم كما أن هذا المناخ يكون جاذبا للاستثمار الخارجي الذي يشعر بالأمان وسهولة الإجراءات ولنعدام البيروقراطية المعوق الأكبر لحركة الاستثمار في البلدان النامية المساواة والعدالة من أهم أسباب نهضة الأمم تحقق مباديء العدالة والمساواة علي أرض الواقع فحين يشعر المواطن أنه يقف علي قدم المساواة مع غيره بغض النظر عن الجنس أو اللون أو الدين أو مستوي الغني أو الفقر فإنه يري أن مواطنته تحققت بشكل كامل وأنه لن يظلم بسبب أحد الأسباب السابقة ولن يمارس تجاهه التمييز والفرز والاضطهاد وقد عاني المصريون لعقود طويلة مضت من أشكال متعددة من التمييز خاصة بعد أن اتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء مع اقتراب الطبقة المتوسطة من خط الفقر والتزاوج غير المشروع بين السلطة والنفوذ والثروة بتغول طبقة رجال الأعمال والمستثمرين في دوائر صناعة القرار السياسي وسيطرتها علي كافة أذرع السلطات التشريعية والتنفيذية وحتي القضائية والصحافة والإعلام وحين يشعر المواطن بأن حصوله علي حقوقه أوحرمانه منها مرتبط بوضعه الاجتماعي وخاصة لوكان خارج هذه الدائرة المسيطرة فإنه يشعر بالدونية وأنه مواطن من الدرجة الثانية وما يليها هبوطا مما يخلق مناخا محتقنا وملتهبا وقابلا للانفجار في أي وقت ومن أهم أسباب انتفاضة الشعب أن مجتمع النصف في المائة الذي يستحوذ علي كل شيء عاد للظهور مرة أخري بعد نهاية عهد الإقطاع مع ثورة يوليو منذ عصر الانفتاح الذي دشنه الرئيس الراحل أنور السادات بعد حرب أكتوبر الحقوق والواجبات من أهم سمات الدولة العصرية أن يتساوي مواطنوها في حقوقهم وأيضا في واجباتهم فهم سواسية أمام القانون وحقوق المواطن تأتي قبل حقوق الحاكم الذي ليس من طبقة أعلي ممن يحكمهم فلا يقيم في قصور واستراحات في كل مكان ولايغلق الطرق في مواكبه ويسدد ضرائبه ويعلن عن مصادر دخله بشفافية ولايستجيب لمطالب المحكومين وأنه في خدمة شعبه وليس العكس لكن ذلك مرتبط بقدرة الشعب علي محاسبته إذا أخطأ فالنظام هو الذي يحكم والحاكم جزء منه ويندرج ذلك علي كل المنظومة السياسية فالمحاسبة تقوي النظام ولاتضعفه وتصحح مساره والانتخابات تفرز من يصلح للحكم ومن يبقي ومن يغادر وألا تسمح هذه المنظومة ببقاء الحاكم لفترات طويلة وألا يتمتع بسلطات مطلقة تحوله إلي نموذج للاستبداد والقهر وتخلق من حوله طبقة مستفيدة ومستغلة لوجوده كما حدث في النظام السابق، ولقد رأينا في الأنظمة المتقدمة كيف تملك الشعوب الحق في محاسبة الحكام بل وملاحقتهم وسجنهم إذا تورطوا في قضايا فساد أو انتهاك للحريات وهذا من أهم معايير الديمقراطية أن يملك الشعب حقه المشروع في الاختيار لمن يحكمه والإطاحة بمن لايلبي مطالبه بل ويقف أمام طموحاته من هنا فإن تداول السلطة عن طريق صناديق الاقتراع يجدد من حيوية الأمم ولايسمح بظهور الحاكم مطلق الصلاحيات والسلطات ولايسمح بتكرار نموذجه علي كافة المستويات السياسية والإدارية إن الدولة التي يحلم المصريون بوجودها هي التي ترعاهم وتخدمهم وتحقق لهم طموحاتهم المشروعة وتعطي لكل فرد من الشعب حقوقه وقد يكون الطريق طويلا ويحتاج لسنوات ولكن إذا خلصت النوايا وصدقت فيمكن أن يتحقق ذلك في المدي القريب ولكن ذلك يحتاج إلي ثقافة تمتد عبر أطياف المجتمع بأكمله أن الناس سواسية والتمايز بينهم لايجب أن يذهب بعيدا لحالة من الانفصال والطغيان ومنطق السادة والعبيد، من هنا فإن الدستور الجديد لابد أن يكون تعبيرا حقيقيا عن رغبات الشعب في الحرية والعدالة وألا يتم تفصيله علي فئة أو طبقة دون الأخري وأن يحقق العدالة والمساواة وأن يحدد هوية الدولة ونظامها السياسي بوضوح وألا يتأثر بمنظومة الدستور الحالي وأن يكون نموذج الدستور الأمريكي حاضرا في عدد مواده التي لاتتجاوز سبع مواد فقط واستطاع أن يصمد لأكثر من مائتي عام ولم يلحقه سوي 22 تعديلا دون تغييره ولايجب أن تكون مواده متجاوزة المائتي مادة كالدستور الحالي وكذلك القوانين يجب أن تنسجم مع الدستورولاتتناقض معه، هذا مايريده الشعب بعد انطلاق ثورته والتي ماتزال في مراحلها الأولي لبناء مصر الحديثة التي تحقق أحلام وطموحات شعب عاني طويلا وحان وقت أن تنضم بلده لركب الحضارة والتقدم كسائر الأمم .