استيقظ الميت فانبعثت الحياة علي الأرض السمراء، هكذا جاء في أساطير مصر القديمة، أوزوريس الملك الأسطوري استيقظ عندما أعادت زوجته المخلصة إيزيس جمع أشلائه، وانفجرت الحياة منه ونبت علي جسده القمح والشعير، فتعلم المصري القديم الزراعة من الإله الميت الذي علم المصريين أيضا فن صناعة الخبز، ومن هنا بدأت أسطورة «العيش». يرتبط المصريون بالخبز منذ قديم الأزل، يعرف بهم ويعرفون به في ملتقي الأمم، تحول «الخبز» إلي «العيش» ببساطة، ملخصا حياة المصري منذ أيامه القديمة وحتي لحظاته المعاصرة، تغلغل الخبز في تفاصيل الحياة اليومية، لازم المواطن المصري في تحولاته وأفراحه وأحزانه، لم يفصله عنه الموت فدفن معه قديما، وبات طقسا حزينا يعرف حديثا ب«الشريك»، لم يخرج من المعابد إلا ليسكن الكنائس، كان حياته وفرحه وغضبه بل وثورته، حفر نفسه في الذاكرة في أمثالها وأشعارها وأزجالها، كان وبحق ملخصا للهوية وحافظا لها. ربما يكون الخبز أحد المنتجات المصرية القديمة التي حافظت علي الشخصية المصرية، فكانت هبة الأجداد التي تسلمها الأحفاد، الرابط الرفيع الخفي بين ماض وحاضر، فالفلاح الفصيح يشكو إلي الفرعون في شكاويه الشهيرة وهو يتحدث عن قلة الموجود، قائلا إن كل ما يحتاجه هو القليل ف«إن ما يحفظ أودك في بيتك قدح من الجعة وثلاثة أرغفة من الخبز»، نفس الشكوي تجدها في صحف اليوم السيارة عندما كانت أزمة توفير الخبز مستحكمة في سنوات ماضية، فالمصري المعاصر من أكثر شعوب العالم استهلاكا للخبز، تستهلك مصر نحو 250 مليون رغيف يوميا.. لا يعرف البعض أن أحد أهم أسباب الثورة الاجتماعية الهائلة التي قضت علي الدولة القديمة (الأسرات الست الأولي) كانت بسبب فشل جهاز الدولة في توفير الخبز للأقاليم التي عاش أهلها في فقر مدقع، كان رد الفعل ثورة مدمرة، ومع مرور القرون عاد الخبز ملمحا ثوريا بامتياز عندما اندلعت انتفاضة شعبية واسعة في 18 و19 يناير 1977 كان عنوانها «الخبز»، أمام الهبة الشعبية تراجع النظام الحاكم وقتذاك عن زيادة أسعار السلع الأساسية وفي مقدمتها «العيش»، لكن الأخير عاد وطل بقوة علي المشهد السياسي مجددًا مع ثورة «25 يناير 2011» المجيدة عندما جعلته علي رأس شعارها الأساسي «عيش حرية عدالة اجتماعية». لم يختلف المصري قديما وحديثا يلخص فلسفته الغذائية في جملة واحدة «عيش.. ومعاه أي حاجة»، فالخبز مهما تغير شكله ستجده حاضرا ومتربعا في وسط المائدة أو «الطبلية» أو علي صحف الجرائد المفروشة علي الأرض، ستجده يوحد الأغنياء والفقراء، هو دليل الوفاء والغذاء والأزمات والحب والحياة في بلاد النيل، فإيزيس قديما لم تجد أفضل من الخبز لتقدمه لزوجها العائد إلي الحياة تعبيرا عن حبها ووفائها، ربما من هنا بدأت أسطورة «الخبز» في حياة المصريين. «الأمثال الشعبية التعبير الأكثر صدقا عن وعي المصريين»، هكذا قال الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي، أستاذ الأدب بجامعة القاهرة، ل«آخر ساعة»، مؤكدا أن الأمثال التي احتفظ بها العقل الجمعي للمصريين تؤكد عمق علاقتهم بالخبز كأحد أهم مكونات المائدة، بل وتعدي ذلك ليعيد رسم الحياة من خلال علاقته بالخبز، الذي أطلق عليه «العيش» ليكون أبلغ دليل علي مدي حميمية العلاقة، وبات مصطلح «عيش وملح» الأشهر في الدلالة علي العشرة والوفاء، كما كان «الخبز» أحد أهم معايير قبول الأمهات لزوجات أبنائهن، فتقول الأم المصرية متقمصة شخصية ماري منيب: «ما تخدش أم كحلة ولبانة، وقت العجن تعمل عيانة. ما يعجبكش قصتها ولا كحلتها وقت الخبيز يا لخمتها». نتصفح كتاب «الأمثال العامية» للعلامة أحمد تيمور باشا لنجد مدي ولع البسطاء بالعيش وهو ما انعكس بوضوح في صورة أمثال تصلح لكل موقف يومي، فمن علي «العيش والملح» دليلا علي الوفاء والإخلاص والأمان بين المشاركين في طقس تناول العيش والملح، إلي «عض قلبي ولا تعض رغيفي»، الذي يكشف مدي الحرص علي رغيف العيش الذي يحرص عليه المصري أكثر مما يحرص علي حياته وقلبه نفسه، ف«يا واخد قوتي.. يا ناوي علي موتي».. ورغم المآسي التي تواجه البسطاء في حياتهم اليومية فهم يتندرون ل«أكل العيش مرّ»، و«الجعان يحلم بسوق العيش»، كما أن العيش وحده بمكوناته الغنية أصبح عند البسطاء والمهمشين وجبة مكتملة ف«العيش الحاف يربي الأكتاف»، بينما الإنسان كثير الكلام والحديث والهزار يشبه صانع العيش «عمال يلت ويعجن»، فيما قال البعض «وشه يقطع الخميرة من البيت»، والشخص النكدي بطبعه «مابيضحكش للرغيف السخن»، فرغيف العيش السخن في الأرياف يؤكل وحده في أحيان كثيرة لحلاوة طعمه، لكن تظل النصيحة الأقيم التي تحترم التخصص الدقيق هي « إدي العيش لخبازه ولو كل نصه».