صورة زيتية لشجرة السيدة مريم أي أن الله اختار للنبوة صفوة خلقه منهم آدم أبوالبشر ونوح شيخ المرسلين وآل إبراهيم أي عشيرته وذوي قرباه وهم إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما ومن جملتهم محمد خاتم المرسلين.. وآل عمران أي أهل عمران ومنهم عيسي ابن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل.. وخص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء لأن الأنبياء والرسل جميعا من نسلهم « ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ».. أي اصطفاهم متجانسين في الدين والتقي والصلاح.. «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» أي سميع لأقوال العباد عليم بضمائرهم «إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ» أي أذكر لهم وقت قول امرأة عمران واسمها «حنة بنت فاقود» (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي)، أي نذرت لعبادتك وطاعتك ما أحمله في بطني «مُحَرَّرًا» أي مخلصا للعبادة والخدمة (فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، أي السميع لدعائي العليم بنيتي فلما وضعتها قالت علي وجه التحسر والاعتذار يارب إنها أنثي.. قال ابن عباس: إنما قالت هذا لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكور.. فتقبل الله مريم قال تعالي «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ» أي والله أعلم بالشيء الذي وضعت قالت ذلك أو لم تقله «وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَي» أي ليس الذكر الذي طلبته كالأنثي التي وهبتها بل هذه أفضل والجملتان من كلامه تعالي تعظيما لشأن هذه المولودة وما علق بها من عظائم الأمور وجعلها وابنها آية للعالمين «وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ» ومعناه في لغتهم العابدة خادمة الرب «وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» أي أجيرها بحفظك وأولادها من شر الشيطان الرجيم.. فاستجاب الله لها ذلك قال تعالي «فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ» أي قبلها الله قبولا حسنا قال ابن عباس: سلك بها طريق السعداء «وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا» أي رباها تربية كاملة ونشأها تنشئة صالحة.. «وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا».. أي جعل زكريا كافلا لها ومتعهدا للقيام بمصالحها.. حتي إذا بلغت مبلغ النساء انزوت في محرابها تتعبد الله، «كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا»، أي كلما دخل زكريا حجرتها ومكان عبادتها وجد عندها فاكهة وطعاما.. قال مجاهد: وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف.. «قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّي لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ»، أي رزقا واسعا بغير جهد ولا تعب «هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ» أي في ذلك الوقت الذي رأي فيه زكريا كرامة الله لمريم دعا ربه متوسلا ومتضرعا «قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً» أي أعطني من عندك ولدا صالحا وكان شيخا كبيرا وامرأته عجوزا وعاقرا. معجزة الميلاد «وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ» أي وقت قول الملائكة.. أي جبريل يا مريم إن الله اختارك من بين سائر النساء فخصك بالكرامات وطهرك من الأدناس والأقذار ومما اتهمك بك اليهود من الفاحشة.. «وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَي نِسَاءِ الْعَالَمِينَ»، أي اختارك علي سائر نساء العالمين لتكوني مظهر قدرة الله وإنجاب ولد بدون أب «يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ» أي إلزمي عبادته وطاعته شكرا علي اصطفائه، «وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ»، أي صلي لله مع المصلين. ويقول الله تعالي «وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ»، أي ماكنت عندهم إذ يختصمون ويتنافسون علي كفالة مريم حين ألقوا سهامهم للقرعة كل يريدها في كنفه ورعايته «وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» أي يتنازعون فيمن يكفلها منهم.. والغرض أن هذه الأخبار كانت وحيا من عند الله العليم الخبير.. روي أن حنة حين ولدتها لفتها في خرقة وحملتها إلي المسجد ووضعتها عند الأحبار وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة فقالت لهم.. دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم ثم اقترعوا فخرجت في كفالة زكريا فكفلها.. قال ابن كثير: وإنما قدر الله كون زكريا كافلا لها لسعادتها لتقتبس منه علما جما وعملا صالحا «إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ» أي بمولود يحصل بكلمة من الله بلا واسطة أب «اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ» أي اسمه عيسي ولقبه المسيح.. ونسبه إلي أمه تنبيها علي أنها تلده بلا أب «وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ»، أي سيدا ومعظما فيها «وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» عند الله «وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا»، أي طفلا قبل وقت الكلام.. ويكلمهم كهلا.. قال الزمخشري: ومعناه يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة.. ولاشك أن ذلك غاية في الإعجاز «وَمِنَ الصَّالِحِينَ» أي وهو من الكاملين في التقي والصلاح.. «قَالَتْ رَبِّ أَنَّي يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء»، أي هكذا أمر الله عظيم لايعجزه شيء يخلق بسبب من الوالدين وبغير سبب بقول له كن فيكون «وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ» أي الكتابة والحكمة أي السداد في القول والعمل أو سنن الأنبياء والتواره والإنجيل أي يجعله يحفظ «وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ» قال ابن كثير: وقد كان عيسي يحفظ هذا وهذا «وَرَسُولًا إِلَي بَنِي إِسْرَائِيلَ»، أي ويرسله رسولا إلي بني إسرائيل قائلا لهم «َأَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ»، أي بأني قد جئتكم بعلامة تدل علي صدقي وهي ما أيدني الله به من المعجزات. أما في سورة مريم فجاءت قصة مريم «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ» وهي القصة الثانية في السورة وهي أعجب من قصة ميلاد يحيي لأنها ولادة عذراء من غير بعل وهي أغرب من ولادة عاقر من بعلها الكبير في السن والمعني.. اذكر يا محمد قصة مريم الدالة علي كمال قدرة الله.. «إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا» أي حين تنحت واعتزلت أهلها في مكان شرقي بيت المقدس لتتفرغ لعبادة الله. «فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا» أي جعلت بينها وبين قومها سترا وحاجزا، «فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا»، أي أرسلنا لها جبريل عليه السلام «فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا»، أي تصور لها في صورة البشر تام الخلقة قال ابن عباس: جاءها في صورة شاب أبيض الوجه جعد الشعر مستوي الخلقة قال المفسرون: إنما تمثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولاتنفر عنه.. ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر علي السماع لكلامه.. ودل علي عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة في الحسن «قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا» أي فلما رأته فزعت وخشيت أن يكون إنما أرادها بسوء فقالت إني أحتمي وألتجئ إلي الله منك.. «قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا»، أي قال لها جبريل مزيلا ما حصل عندها من خوف ما أنا إلا ملك مرسل من عند الله إليك ليهب لك غلاما طاهرا من الذنوب «قَالَتْ أَنَّي يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا»، وهنا انتهي الحوار بين الروح الأمين ومريم العذراء.. قال المفسرون: إن جبريل نفخ في جيب درعها فدخلت النفخة في جوفها فحملت به وتنحت إلي مكان بعيد.. «فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَي جِذْعِ النَّخْلَةِ» أي فألجأها ألم الطلق وشدة الولادة إلي ساق نخلة يابسة لتعتمد عليه عند الولادة «قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّ» قال ابن كثير: عرفت أنها ستبتلي وتمتحن بهذا المولود فتمنت الموت لأنها عرفت أن الناس لايصدقونها في خبرها.. وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح زانية ولذلك قالت ما قالت.. «فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» أي جعل لك جدولا صغير يجري أمامك.. قال ابن عباس ضرب جبريل برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب فجري جدول يتساقط عليك الرطب الشهي الطري.. قال المفسرون: أمرها بهز الجذع اليابس لتري آية أخري في إحياء موات الجذع بعد رؤيتها عين الماء العذب الذي جري جدولا.. وذلك ليسكن آلامها وتعلم أن ذلك كرامة من الله «فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا».. قال قتادة: كان هارون رجلا صالحا في بني إسرائيل مشهورا بالصلاح فشبهوها به وليس هارون أخي موسي لأن بينهما مايزيد علي ألف عام. هل كانت مريم نبية؟ قال رسول الله (صلي الله وعليه وسلم) (كمل من الرجال كثيرا ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وإن فضل عائشة علي النساء كفضل الثريد علي سائر الطعام). قال العلماء الكمال المطلق إنما هو لله تعالي خاصة ولاشك أن أكمل نوع الإنسان الأنبياء ثم يليهم الأولياء من الصديقين والشهداء والصالحين.. وبحسب تفسير القرطبي فإذا تقرر هذا فقد قيل أن الكمال المذكور في الحديث يعني به النبوة فيلزم عليه أن تكون مريم عليها السلام وآسية نبيتين، وقد قيل بذلك.. والصحيح أن مريم نبية لأن الله تعالي أوحي إليها بواسطة الملك كما أوحي إلي سائر النبيين حسب ما تقدم. وأما آسية فلم يرد ما يدل علي نبوتها دلالة واضحة علي صديقيتها وفضلها.. علي ما يأتي بيانه في «التحريم».. وروي من طرق صحيحة أنه عليه السلام قال فيما رواه عنه أبوهريرة «خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم «امرأة فرعون» وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد».. وفي حديث آخر قال صلي الله وعليه وسلم «سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم فاطمة وخديجة».. فظاهر القرآن والأحاديث يقتضي أن مريم أفضل من جميع نساء العالم من حواء وإلي آخر امرأة تقوم عليها الساعة.. فإن الملائكة قد بلغتها الوحي عن الله عز وجل بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلغت سائر الأنبياء.. فهي إذ نبية والنبي أفضل من الولي فهي أفضل من كل النساء الأوليات والأخيرات مطلقا.. وكذلك رواه موسي بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله وعليه وسلم «سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية».. وقد خص الله مريم بما لم يؤته أحدا من النساء وذلك أن روح القدس كلمها وظهر لها ونفخ في درعها ودنا منها للنفخة.. فليس هذا لأحد من النساء.. وصّدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية عندما بشرت كما سأل زكريا من الآية ولذلك سماها الله في تنزيله صديقة فقال «وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ» (المائدة: 75) وقال «وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ» (التحريم: 12) فشهد لها بالصدّيقة وشهد لها بالتصديق بكلمات البشري وشهد لها بالقنوت.. وإنما بشر زكريا بغلام فلحظ إلي كبر سنه ومقامه رحم امرأته فقال - «أَنَّي يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا»، فسأل آية.. وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر ولم يمسسها بشر فقيل لها «كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ» (مريم: 21) فاقتصرت علي ذلك وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية ممن يعلم كنه هذا الأمر.. ومن لامرأت في جميع نساء العالمين من بنات آدم ما لها من هذه المناقب.. ولذلك روي أنها سبقت السابقين مع الرسل إلي الجنة: جاء في الخبر عنه صلي الله وعليه وسلم «لو أقسمت لبررت لا يدخل الجنة قبل سابقي أمتي.. إلا بضعة عشر رجلا منهم إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وموسي وعيسي ومريم ابنة عمران».. وكذلك شأن مريم لم تنل شهادة الله في التنزيل بالصدّيقة والتصديق بالكلمات إلا لمرئية قريبة دانية ومن قال لم تكن نبية.. قال «إن رؤيتها للملك كما رئي جبريل عليه السلام في صفة دحية الكلبي حين سؤاله عن الإسلام والإيمان ولم يكن الصحابة بذلك أنبياء.