أعضاء لجنة التحكيم ما أفسدته السياسة أصلحه الفن في مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي في دورته الحادية والثلاثين.. مصالحة عربية من خلال أربعة عشر فيلما لأول مرة في المسابقة العربية للأفلام التي تقام للمرة الأولي.. تواجد سوري كبير علي رأسه الفنان القدير «دريد لحام» و«محمد الأحمد» رئيس مؤسسة السينما السورية بعد غياب فترة طويلة وانقطاع عن مصر. الجزائر وتواجد وفد فني كبير وأفلام جميلة تحمل عبق التاريخ.. السينما ترمم العلاقات التي أفسدتها الكرة.. وتثبت للجميع أن الشعوب فوق الحكومات وأن الفن والأسرة الفنية في العالم العربي أسرة واحدة من المحيط إلي الخليج. مهرجان الإسكندرية برئاسة الصديق القدير الكاتب «أمير أباظة» نجح في أن يلم الشمل العربي وهو يحتفل ب (120 سنة سينما) مائة وعشرين سنة (متعة) و«بهجة» وحياة مختلفة.. تعكسها شاشة أمامنا فتشدنا إليها وإلي العوالم التي تقدمها لنا.. في هذه الدورة تم عرض مايزيد عن 200 فيلم من 32 دولة.. من خلال عدة مسابقات وبرامج موازية.. وتبقي الجزائر في الذاكرة سنوات طويلة من الكفاح المضني ضد الاستعمار الفرنسي ووحشيته الضارية.. دفع فيها الجزائريون الثمن غاليا «الروح» والدم.. لكن لاشيء يعلو علي الحرية والاستقلال. مليون ونصف مليون شهيد ثمن للاستقلال بالإضافة لثلثي سكان القبائل التي أبادتهم القوات الفرنسية في القرن التاسع عشر.. وإذا كانت الجزائر تحتفل بذكري خمسين عاما علي الاستقلال.. فإن السينما ترصد البطولات والحكايات وتؤرخ لها.. وتعيد إلي الأذهان التي لن تنسي أبدا ماسطره التاريخ من بطولات.. ولذلك فإن «وزارة المجاهدين» في الجزائر لا تراعي المجاهدين القدامي فقط أو أسرهم بل تساهم مع وزارة الثقافة في تخليد هذه البطولات من خلال دعمها الكبير للسينما والسينمائيين. وفي الدورة الحادية والثلاثين لمهرجان الإسكندرية عرض أكثر من فيلم يحمل السيرة العطرة لهؤلاء المجاهدين «نساء ورجالا وأطفالا» لا الجنس. أو السن فرق بينهم فكلهم مواطنون محبون لبلدهم وحريتهم. من أجمل الأفلام التي شاهدناها فيلم «فاطمة تسومي» للمخرج بلقاسم حجاجي الذي درس السينما في بروكسل الذي قدم أول أفلامه الروائية الطويلة «ماشاهو» والثاني «المنارة» وذلك بعد أربعة أفلام تلفزيونية وفيلم روائي قصير. وفيلم «فاطمة تسومي» يعد فيلمه الثالث وهو مأخوذ عن واقعة حقيقية.. جرت في عام 1847.. حيث كانت منطقة «القبائل» هي المنطقة الوحيدة التي لم ينجح المستعمر الفرنسي في احتلالها.. ولم يستطع السيطرة عليها، كفاح مرير من سكانها ومقاومة أوقعت بالفرنسيين خسائر كبيرة جدا في العتاد والأرواح. في هذه المناطق الجبلية الوعرة كانت حكاية «فاطمة تسومي» فتاة لم ترضخ للعادات والتقاليد.. فكانت تتلقي من خلال الاستماع إلي القرآن من معلمي إخوتها ما يعينها هي أيضا علي متابعة الدروس. وعندما أرغمها أهلها علي الزواج اعتبرت هذا باطلا ورفضته بشدة حتي إنها هاجمت زوجها في ليلة الزفاف.. ولم يكن أمام أهلها سوي إرسالها بعيدا عن أخيها «الطاهر» الذي قبل بحمايتها.. وتعامل معها بندية احتراما منه لعقلها، خاصة أنها كانت تحمل بركة من جدها تتمثل في قوتها الروحية. في القرية النائية كانت النساء تستشيرها في شتي شئونهن الدينية والدنيوية، بل إن أخاها طاهر سمح لها في غيابه بأن تأخذ مكانه فيما يخص اجتماعات الرجال من أهل القرية. قوة فاطمة الروحية تساند المقاتل «بوغلبة» معطية إياه درع جدها.. لكنه يوم خرج عن الميدان وقفت أمامه رغم حبها له.. رفض زوج فاطمة أن يطلقها عقابا لها.. لكنها لم تأبه ولم تهتم.. وعندما مات «بوغلبة» قادت هي الرجال وحثتهم علي الصمود وجعلت النساء جميعا يشاركن سواء في حمل السلاح أو العناية بالجرحي.. وقفت المرأة القبلية الجزائرية بجوار الرجل كتفا إلي كتف تشاركه الدفاع عن الأرض وحمايتها. لذا أطلق عليها «جان دارك القبائل» وعندما تم أسرها هي وأخويها وأبيدت قريتها لم تتحمل السجن وتوفيت بعد أسرها بفترة قصيرة جدا بعد أن أدهشت المستعمر الفرنسي بقوتها وشجاعتها وهكذا تبقي حكايات النساء في الجزائر واحدة من صفحات التاريخ المضيئة. سيناريو الفيلم شارك في كتابته مع بلقاسم .. مارسيل بوليو.. أما البطولة للفنانة «ليتيسيا أيدو».. وأسعد بوكاب.. وعلي عمران. الفيلم يمتاز بالتقنية العالية جدا في مستوي الإخراج وتحريك المجاميع خاصة أن هناك صعوبة كبيرة في التصوير في الجبال شديدة الوعورة وهذا شيء يحسب للمخرج ومدير التصوير بالإضافة للموسيقي التصويرية لقد كان الفيلم وحدة فنية شديدة التميز والجمال.
ملحمة الكفاح التي تعكس تاريخ وحياة الشعب الجزائري تفرض نفسها بقوة علي السينما الجزائرية.. وفي إطار المسابقة العربية التي تضم أكثر من أربعة عشر فيلما شاركت فيها الجزائر بفيلمين «فاطمة تسومي» الذي تحدثنا عنه والثاني «البئر» الذي يعد العمل الأول لمخرجه «لطفي بوشوش» وهو مأخوذ من مجموعة قصص وحكايات جمعها عمه الأديب «بوشوش» وذلك كتجميع لقصص البطولات ومواقف الكفاح التي وقعت ماقبل الاستقلال. في فيلم «البئر» نموذج آخر من بطولة نسائية جماعية لقرية وسط الصحراء الجزائرية.. الطبيعة فيها شديدة القسوة أيضا حيث لاتوجد مياه.. تعتمد الحياة فيها علي بئر تم تجفيفه بعدما ألقيت فيه جثث جنود من الفرنسيين بعد أن استولي شبابها علي أسلحتهم، وتحمل الجميع العطش الذي قد يؤدي بهم جميعا إلي الموت. موقف النساء مع القلة الباقية من الرجال العجائز المتبقين علي قيد الحياة هم من يقاومون هذا الحصار ويتحدون إطلاق النار عليهم ليموت ويقتل الكثيرون منهم ليهبوا الحياة للأطفال وباقي النسوة من أهل القرية. المخرج يستحق كل التحية لإدارة هذه المجاميع الرائعة من النساء والأطفال خاصة أن معظمهم يقف أمام الكاميرا للمرة الأولي.. وعندما سألوه هل فيلمه نوع من التكريم لدور المرأة في الجهاد؟ أجاب إنه تكريم للجميع لأن جميع الرجال والشباب دفعوا حياتهم ثمنا للجهاد ولم يتبق من هذه القرية سوي نسائها وهو ما كان عليه حال العديد من القري في الجزائر سواء في المناطق الصحراوية أو الجبلية النائية. فتحية لشعب الجزائر وللعلاقات المصرية الجزائرية.
للمدن حكايات كثيرة تحمل ملامحها الكثير من الجمال «والعورات» في نفس الوقت تحاول مدن تتصف بالذكاء مداراة القبح بها وإبراز الجمال فقط وتعرف كيف تصدر هذا الجمال للعالم.. لكن الحقيقة إنه لا توجد مدينة في العالم كله ليس بها جوانب قبيحة وقاسية علي سكانها ومناطق خطرة. «حكايات» المدن تتشابه مهما اختلفت مواقعها علي الخريطة.. وهناك في المدن أماكن تسكن القلب يحن إليها الإنسان.. لكن يظل الحب للمدينة التي عشنا وتربينا فيها وكبرت معنا ذكرياتنا أهم ما يميزها هو الصدق في الرؤية لها.. ومعرفة كل زواياها وخبيئتها.. وهذا مانجحت في تقديمه لنا بامتياز المخرجة اللبنانية فرح زين الهاشم في أول أفلامها المشارك في المسابقة العربية «ترويقة بيروت» فرح أمضت سنوات طويلة من عمرها في أمريكا تعمل في الأممالمتحدة، وذلك قبل أن تقرر أن تعود لمدينتها «بيروت» وتقدم فيلما سينمائيا عنها.. فيلم يبتعد تماما عن جمال بيروت.. لكنه يتحدث عن قسوتها ووحشيتها تجاه أبنائها.. إنها نظرة حب واعية ترصد أخطاء وسلبيات المدينة التي جعلت بعضا من أبنائها يهجرونها ويعيشون بعيدا عنها لكنهم في نفس الوقت يشتاقون إليها ويعذبهم الحنين بالعودة. «ترويقة بيروت» باختصار شديد هو حكاية كل مدينة فيما تفعله بأبنائها. ولقد أهدت فرح فيلمها للمخرج الراحل «مارون بغدادي» الذي كان عاشقا لبيروت ولقي مصرعه في حادث أسانسير. لقد نجحت فرح في أن تقدم فيلما يحمل الكثير من المشاعر صورته بأبسط الأشياء ولم تترك اللحظة تنفلت من بين أصابعها هي وصديقتها التي شاركتها البطولة «ناناشا» مستعينة بشهادات حية للعديد من الشخصيات التي تعمدت ألا تذكر أسماءهم.. لأن كل ماكان يهمها هي مشاعرهم وآراؤهم وحكاياتهم فقط عن المدينة التي تعشقها.