العاصمة «باريس» هي الداء والصداع القاتل في رأس كل الحكومات المتعاقبة.. هي الوجه القبيح لعاصمة النور والثقافة والجمال والموضة. «الضواحي» تمتلئ بالعنف وتصاغ فيها كل الجرائم.. فهي مرتع وأرض خصبة للجريمة، أنها «سجون» في الهواء الطلق تعيش فيها أسر المهاجرين، البعض منهم ينعم بالجنسية والآخر يحلم بها.. وينتظرها بفارغ الصبر.. لكنهم جميعا في «الهم» سواء. «الضواحي» مفردات.. ومقرات للتطرف.. والتسيب.. والعنف.. منها تبدأ كل الاضطرابات والإضرابات.. البعض يعتقد أن المهاجرين من أصول عربية هم أكثر الجاليات مشاكل.. لكن الحقيقة أن كل الجاليات المهاجرة تنقل مشاكلها.. وصراعاتها من بلادها إلي داخل الأراضي الفرنسية، وقد تميز مهرجان «كان» هذا العام بأفلام فرنسية ألقت الضوء بصدق علي المشاكل اليومية والمعيشية للمواطن الفرنسي بمختلف طبقاته الاجتماعية. لذلك لم يكن غريبا أن يفوز «بالسعفة الذهبية» الفيلم الفرنسي «ديبان» للمخرج «جاك أوديار» الذي نقل بصدق مشاكل الأقليات من غير العرب.. وهو علي غير ما اعتادت عليه السينما الفرنسية.. لأن هذه المرة الحكاية من «سيري لانكا». أبطال الفيلم ثلاثة: شاب.. وفتاة.. وطفلة صغيرة.. جمع بينهم القدر وكأنهم أسرة واحدة لكي يستطيعوا الحصول علي جوازات سفر للخروج من سيري لانكا».. واللجوء إلي فرنسا وذلك بعد الأحداث الدموية بعد الحركة الانفصالية التي شهدتها البلاد وراح ضحيتها الآلاف.. في بلد «المهجر» يعثر «ديبان» الجندي السابق علي وظيفة حارس للعقارات الواقعة في إحدي الضواحي.. أما «ياليني» التي يعتقد الجميع أنها زوجته فإنها لا يوجد في رأسها سوي فكرة واحدة هي الرحيل من فرنسا إلي انجلترا لتلحق بأبناء عمومتها.. أما الصغيرة «إيليال» التي فقدت جميع أفراد أسرتها وتعتبر أو صدقت نفسها بأن «ديبان» و«ياليني» هما أبواها بالفعل. في الضواحي ما أكثر المشاكل أقلها الشباب الضائع ما بين «الإدمان» وتجارة المخدرات.. ومع وجود جاليات آسيوية وخلافات عرقية ومتطرفين.. دخلت تجارة السلاح.. وأصبحت «الضاحية» أو ما يطلق ال«cite».. ووسط تلك المشاكل يجد «ديبان» نفسه غصبا عنه يتورط مع هؤلاء القتلة وتجار المخدرات كي يدافع عن زوجته وابنته لكن «ياليني» تحاول الهرب إلي إنجلترا. وبمرور الوقت ونظرا للحياة الصعبة الخطرة التي يعيشون فيها يتحولون إلي أسرة حقيقية.. لينتهي الفيلم بهم في انجلترا وهم يعيشون في سعادة حقيقية.. إيقاع الفيلم السريع وخفايا المدينة والعنف الذي لا يتخيل أحد وجوده حتي تصبح الضاحية وكأنها «ترسانة» حربية كل ذلك جعل الوجه القبيح لعاصمة الجمال يطغي علي السطح. الفيلم مأخوذ عن قصة بها الكثير من الحقائق للكاتب «انطوني ناتان» الذي اشتهر باسم «شو باساكتي».. هذا الكاتب كان ينتمي للجبهة المسلحة وكان ذلك منذ كان في الخامسة عشرة من عمره.. وعندما وصل إلي التاسعة عشرة هرب من البلاد ولجأ إلي فرنسا وذلك في سنة 1933. وطلب حق اللجوء السياسي.. وعمل في أكثر من مجال.. كعامل.. ونادل.. وكان أثناء ذلك يكتب مذكراته والقصص التي تروي جزءا كبيرا من تاريخ بلاده.. ليقدمها كمسرحيات أيضا.. وكانت أول رواية طويلة نشرت له سنة 2001، «جوريللا» وكانت تعتبر أول رواية تتضمن شهادات حية لما حدث في «سيري لانكا». هذا الكاتب والروائي الواعد هو الذي اختاره «جاك أوديار» ليقدم دور «ديبان».. أما الفتاة فهي أيضا المرة الأولي التي تقف أمام الكاميرا هي والطفلة الصغيرة.. والذين أدوا جميعا مشاهدهم بصدق شديد.. هذا الرباعي مع فريق العمل الخاص بأوديار استحق عن جدارة السعفة الذهبية. فاطيما ورحلة كفاح انعكاس مشاكل الضواحي علي فرنسا كبير خاصة الجيل الجديد من الشباب الذي لا يعرف جذوره الحقيقية حيث إنه لا يجيد جيدا أو علي الإطلاق العربية وانصهر تماما في المجتمع الفرنسي.. إنه جيل مظلوم ينتمي لدينه وعروبته من خلال فلكلور لا أصول حقيقية لأنه لا يعرف عنها الكثير.. وهذا هو ما قدمه بشكل إنساني كبير فيلم «فاطيما» للمخرج الذي تخصص تقريبا في مناقشة القضايا العربية للمهاجرين في فرنسا «فيليب فوكون» والذي عرض بصدق شديد حكاية «فاطيما» التي تشبه حكاية كثير من النساء في المهجر.. «فاطيما» سافرت لفرنسا دون أن تتحدث الفرنسية مع زوجها الذي رحل وترك لها ابنتين سعاد في الخامسة عشرة من عمرها.. وهو سن المراهقة الحرج.. والكبري نسرين في الثامنة عشرة من عمرها تبدأ أولي مراحل الدراسة الجامعية للطب.. «فاطيما» تشعر بالعجز والقهر أمام بناتها.. «فاطيما» تعمل في نظافة المنازل.. وهو ما يشعرها بالخجل الشديد خاصة أنها لا تجيد الحديث مع ابنتها الصغيرة وبالتالي تشعر أنها عاجزة باستمرار عن متابعتها وتوجيهها.. معاناة «فاطيما» وعجزها التي لا تعرف التعبير عنه بالفرنسية.. قررت أن تكتب مذكراتها بالعربية. «فاطيما» هي حالة متكررة في عالم المهاجرين.. الذين يعملون في أدني الوظائف وظروف هذه الأعمال لا تسمح لهن بانتظام بمتابعة دروس اللغة.. التي هي السبيل الوحيد ليندمجن اندماجا حقيقيا في المجتمع.. ولا يصبحن علي الهامش وكأنهن غير مرئيات. وقد اختار «فوكون» بطلات فيلمه من الشخصيات العادية ليكون الفيلم تجربتهن الأولي.. صوت.. وصورة عربية لبنانية فرضت نفسها في «كان» من خلال مسابقة الأفلام القصيرة.. واستطاع أن ينتزع بجدارة «السعفة الذهبية» للفيلم القصير.. أنه فيلم «موج 98» للمخرج الشاب اللامع والمتميز «إيلي داغر» الذي لا تتجاوز مدة عرضه أربع عشرة دقيقة وخمسين ثانية.. إنه رؤية بعين محبة للوطن لبنان وللمدينة بيروت.. وفيه يروي ما يشبه السيرة الذاتية لحبه لوطنه الذي غاب واغترب عنه كثيرا.. لكن في كل مرة يبتعد يشعر بالحب والحنين لمدينته بيروت يرصد فيها كل التغيرات التي حدثت علي مدي السنوات الماضية. إنها رسالة حب صادقة أوصلها للعالم الذي رحب بها.. وكانت «السعفة الذهبية» هي الهدية الكبري التي تلقاها عن هذا الحب والعمل المتميز.. مبروك إيلي.. ومبروك لبنان وكل الدول العربية. «فاطيما».. وأزمة الجيل الثاني من المهاجرين «موج 98» السعفة الذهبية للبنان لأحسن فيلم قصير