بدلا من سعي المسئولين لإيجاد حلول جذرية لإصلاح المنظومة الصحية التي تفجر أوضاعها المتردية آلام المرضي وتزيد معاناتهم، تخرج علينا وزارة الصحة بتقليعة جديدة تتمثل في منظومة "التلي ميديسن" التي تعتمد علي تقنية "فيديو كونفرانس"، للربط بين الوحدات الصحية الموجودة في المناطق النائية وبين الاستشاريين في مختلف المستشفيات التعليمية، لإجراء عملية الكشف والتشخيص للمرضي عن بعد، في ظل النقص الحاد لمختلف التخصصات الطبية بهذه المناطق، في وقت وجه خبراء انتقادات للفكرة وشككوا في فاعلية هذه المنظومة، واعتبروا أن اتجاه الوزارة لتطبيقها يعد متاجرةً بالمرضي واستخفافاً بآلامهم. تفاصيل المنظومة الجديدة التي تم اعتمادها مؤخراً يكشفها الدكتور حسام عبدالغفار المتحدث باسم وزارة الصحة الذي يؤكد أن اتجاه الوزارة لتدشين منظومة الكشف عن بعد جاء بدافع التفكير خارج الصندوق لإيجاد حلول غير تقليدية للارتقاء بالمنظومة الصحية في مصر، فالهدف الرئيسي من هذا المشروع كما يشير مواجهة النقص العددي للأطباء وندرة التخصصات الطبية المختلفة بالمناطق النائية والمناطق الحدودية، حيث تتيح تقنية "الفيديو كونفرانس" لطبيب الوحدة الصحية إمكانية عرض الحالات علي الاستشاريين بمختلف الجامعات والمستشفيات التعليمية، ما يوفر علي المرضي عناء الانتقال إلي المحافظات المركزية للحصول علي الاستشارة الطبية. كما تهدف المنظومة أيضاً إلي تفعيل عملية التدريب والتأهيل لأطباء الوحدات الصحية من خلال ربطهم بكبار الاستشاريين، الأمر الذي لم يكن محققا لهم نظراَ لبُعد المسافة وانعدام إمكانيات التواصل. ويؤكد عبدالغفار أنه تم توقيع بروتوكول بين وزارة الصحة ووزارة الاتصالات لاستخدام تكنولوجيا المعلومات في تطوير المنظومة الصحية، يتضمن التزام الأخيرة بتوفير البنية التحتية اللازمة لإعداد منظومة الكشف عن بعد من الكابلات وشبكات الاتصال التي تحتاجها، غير جميع الإمكانيات التكنولوجية الأخري. كما ستُلزم وزارة الصحة الشركة المنوط بها إعداد التطبيق الخاص بالمنظومة الجديدة، بتدريب الأطباء علي كيفية استخدام "الفيديو كونفرانس"، علي أن يتولي طبيب الوحدة الصحية مسئولية توضيح خطواتها للمريض. ومن المخطط أن تبدأ المرحلة الأولي في تطبيق المنظومة بالوحدات الصحية الموجودة بواحة سيوة، والواحات البحرية بمحافظة الوادي الجديد والنوبة، علي أن يتم ربط الوحدة الصحية الواحدة بثماني مستشفيات لضمان تعدد مصادر الاستشارة، منها المستشفيات الجامعية بالاسكندرية والزقازيق وأسوان ومستشفي القصر العيني بالقاهرة، ليتم استكمال تغطية جميع المناطق النائية تباعاً ومنها شمال وجنوب سيناء، وحلايب وشلاتين بمحافظة البحر الأحمر. يتابع: المشروع الجديد سيعتمد علي توفير كاميرات حديثة وأجهزة كمبيوتر بالوحدات الصحية الموجودة بالمناطق النائية، وسيتم إدارتها عن طريق برنامج إلكتروني معين يتيح لطبيب الوحدة إدخال البيانات الكاملة للمريض، مع إرفاقها بالتحاليل والأشعات الخاصة به، قبل أن يتم الاتصال عبر تقنية "الفيديو كونفرانس" مع الاستشاريين. غير أن هذه التقنية لا تحتم علي الطبيب الاستشاري التواجد في أماكن محددة لمناظرة المرضي، بل يمكنه استخدام التطبيق من خلال هاتفه المحمول أو الحاسب اللوحي "التابلت" الخاص به. أما التخصصات التي يمكن يتم تغطيتها بواسطة هذه التقنية فتشمل الأمراض الباطنية، والمخ والأعصاب والأطفال، وسيقتصر التدخّل الطبي من خلالها علي الاستشارة والتشخيص. بينما يري الدكتور خالد سمير عضو مجلس النقابة العامة للأطباء أن منظومة "الكشف عن بعد" التي تتجه وزارة الصحة لاعتمادها، تمثل متاجرةً بآلام المرضي ولا تهدف إلا للتربح عن طريق "البزنس" الذي سيتم بين الحكومة وشركات القطاع الخاص المنوط بها توفير الإمكانيات التكنولوجية اللازمة لها. كما أن هذه المنظومة تقوم علي أساس غير أخلاقي ويمكن أن تشكل خطراً علي المرضي حال حدوث أي خطأ تقني يترتب عليه خطأ في التشخيص. فاستخدام تقنية "الفيديو كونفرانس" في أي مرحلة من مراحل العلاج تنطوي علي مخالفة صريحة لقواعد وآداب المهنة، التي تلزم الطبيب بمناظرة المرضي وجهاً لوجه لإجراء التشخيص المطلوب، فلا يُسمح للطبيب إقرار العلاج عن طريق الاتصال الهاتفي بالمريض أو باستخدام أي من الوسائل الوسيطة بينهما، غير أن مبادئ الطب تعتمد علي اكتشاف المرض عن طريق تحليل شكل المريض، ثم مناظرة مظاهر وأعراض المرض في جسده عن طريق الفحص الظاهري، ثم التأكد من التشخيص من خلال التحاليل والأشعات. متابعاً: لدينا مشاكل هائلة في المنظومة الصحية كان يجدر بوزارة الصحة أن تبدأ -بطريقة علمية- في وضع حلول جذريةً لها، بدلاً من السعي وراء أفكار غير فاعلة وغير منطقية. فالأزمة التي تواجه منظومة العلاج في المناطق النائية، تتمثل في انعدام الامكانيات وتردي مستوي الخدمة الطبية المقدمة إلي المرضي في الوحدات الصحية، وعشوائية التوزيع الجغرافي والنوعي للأطباء علي أنحاء الجمهورية والذي يُفترض أن يتناسب مع التعداد السكاني واحتياجات المرضي كما نص الدستور. فندرة وضعف التخصصات في هذه المناطق ترجع إلي سوء إدارة الدولة لمنظومة تكليف الأطباء التي تتم بلا رؤية، فمصر الدولة الوحيدة في العالم التي تسمح بتوزيع الأطباء حديثي التخرّج ممن لم يمارسوا مهنة الطب، علي الوحدات الصحية ليتحملوا مسئولية أعداد هائلة من المرضي، دون خضوعهم لإشراف من الأطباء الذين يفوقونهم في الخبرة، وهذا الوضع يحمل ظلماً بيّناً للمريض والطبيب علي السواء. يضيف: من المفترض أن يتوافر في أي مكان يقدّم خدمةً صحية، مستوي أولي من الخدِمة يقدمها ممارسو عموم وأخصائيون، ومستوي ثانوي عن طريق استشاريين في مختلف التخصصات التي يحتاجها المريض. إلا أن وزارة الصحة تحاول من خلال هذا المشروع أن تداري فشلها في توفير عدد كافٍ من الاستشاريين في المناطق النائية، في ظل تقاعسها عن توفير عوامل الجذب للأطباء ليبادروا بالالتحاق بهذه الوحدات. الوزارة للأسف لا تتدخل لحل أي من المشكلات التي يواجهها الأطباء في هذه المناطق، فالطبيب يعاني هناك من سوء الأوضاع المعيشية ولا يجد سكناً ملائماً، فضلاً عن العزلة الاجتماعية التي يعيشها، غير الوضع الأمني الخطير الذي يسيطر علي بعض المناطق النائية كالعريش والشيخ زويّد بمحافظة شمال سيناء. ومقابل كل هذه الصعوبات لا يوجد أي تعويض مجز للأطباء، فالنقابة تحارب منذ سنوات لرفع الحوافز الهزيلة التي تقدمها وزارة الصحة لأطباء التكليف. لذا نجد أن عوامل الطرد هذه أدت إلي نفور أعداد كبيرة منهم من هذه المناطق. أما الدكتور أسامة مصطفي خبير تكنولوجيا المعلومات فيؤكد أن حالة البنية التحتية التكنولوجية في مصر لا تسمح بتطبيق تقنية بهذا الحجم بالكفاءة والجودة المطلوبين. فنقل الصوت والصور المتحركة عبر "الفيديو كونفرانس" يحتاج إلي سرعة هائلة في نقل البيانات، ويمكن أن يؤدي بطء الاتصال إلي صعوبات تقنية من شأنها إحداث خلل كبير في المنظومة حال تطبيقها، ما يؤثر علي جودة ووضوح الصورة. غير أن الشبكات لن تتحمّل ضغط هذه التقنية التي يُحتم تطبيقها ضرورة تغطية المناطق النائية بشبكة إنترنت فائقة السرعة، وإذا نظرنا إلي التجارب الدولية المماثلة سنجدها مطبّقة في دول الخليج علي سبيل المثال باستخدام سرعة 24 جيجا بايت، بينما لا تتجاوز سرعة الإنترنت لدينا 10 جيجا بايت، تمثل السرعة الفعلية لنقل البيانات منها 2 جيجا فقط. يتابع: المشكلة الرئيسية أن شبكة الانترنت لدينا مازالت تعتمد في عملها علي الكابلات النحاسية ما يستدعي إحلالها واستبدالها بكابلات الألياف البصرية والضوئية، غير أن تكلفة مد الكابلات لهذه المناطق كبيرة جداً تتجاوز عشرات الملايين. وفي حال اعتمدت وزارة الاتصالات نظام الربط الشبكي عن طريق "الوايرلس" سيتطلب الأمر إقامة أبراج تقوية لشبكات الإنترنت في هذه المناطق، إلا أن المنظومة ستواجه العقبة ذاتها، فالشركات التي تقدّم خدمة الانترنت لم تبدأ حتي الآن في تطبيق الجيل الرابع من شبكات الاتصال، ما يحد بشكلٍ كبير من كفاءة نقل الصورة المتحركة. ويوضح أن تطبيق تقنية "الفيديو كونفرانس" تتطلب إمكانيات تكنولوجية أخري يمكن أن تمثل عبئاً مادياً علي الدولة، تتمثل في ضرورة توفير كاميرات رقمية حديثة تحمل خاصية تكبير الصور المتحرّكة. ويري مصطفي أن إدخال تكنولوجيا المعلومات لتطوير المنظومة الصحية يجب أن يبدأ بمشروعات أكثر أهمية وأكثر قابلية للتنفيذ، مثل مشروع رقمنة الملفات الطبية الخاصة بالمواطنين وتوثيقها من خلال إعداد قاعدة بيانات موحدة تحمل هذه الملفات، بحيث تربط المستشفيات الحكومية والخاصة بإدارة المعلومات التابعة لوزارة الصحة، ما يُسهم بشكلٍ كبير في تطوير البحث العلمي بمجال الطب، لما تتيحه هذه الملفات من بياناتٍ هائلة عن طبيعة الأمراض ونسب انتشارها بين المواطنين، كما يمكن للمريض عن طريقها حمل ملفه الطبي كاملاً أينما ذهب من خلال رقم معين، وهو المعمول به في كثير من دول العالم.