يوم من عمرى مع زبيدة ثروت بعد عشر سنوات من رحيل عبدالحليم حافظ "العندليب الأسمر"، قدم المخرج محمد خان، فيلم زوجة رجل مهم، الذي يعتبر واحدا من أهم أفلامه بل إنه أفضلها علي الإطلاق، وقد تبدو للوهلة الأولي أن لا علاقة بين حكاية الضابط الذي يستغل نفوذه، ويصاب بحالة جنون عندما يتم إقصاؤه عن عمله لكثرة تجاوزاته، وبين عبدالحليم حافظ، ولكن بتأمل الحدث من وجهة نظر "مني" الفتاة الرقيقة الحالمة "ميرفت أمين" زوجة الضابط سوف تجدها غارقة لأذنيها في عشق أغنيات عبدالحليم، بل إنها قد قامت بتسجيل كلمة وذكري لكل أغنية من أغنياته، إنها ابنه هذا الجيل الذي نما وعاش في فترة بزوغ نجم العندليب، بما كان يمثله لجيل الستينيات والسبعينيات من قدوة ورمز، بل إن فيلم زوجة رجل مهم قدم مشهدا لفتاة تنتحر بإلقاء نفسها من شرفة منزلها، فور سماعها نبأ وفاة عبدالحليم في عام 1977. 38 سنة مرت علي وفاة العندليب، ومازال يملأ الدنيا بصوته العذب، سواء وهو يغني للحب والعشاق أو وهو يغني للوطن، أحلف بسماها وبترابها، وعدي النهار، وصورة، صباح الخير ياسينا، وعشرات الأغنيات التي تستحضرها الذاكرة في المناسبات المختلفة، لاتجد إلا صوت عبدالحليم يعبر عنك بواحدة من روائعه، ولكن هل كان الرجل الذي نحتفي بذكري وفاته، مجرد مغن وصاحب صوت جميل، أم إنه كان مشروعا ومؤسسة فنية متكاملة؟ لو أردت أن تتحدث عن أهمية عبدالحليم، وقيمته الفنية، فلابد ألا تغفل أو تنسي قيمته كنجم سينما أيضا، لأن السينما في سنوات الخمسينيات كانت من أهم وسائل انتشار نجوم الغناء، ولايوجد مطرب أو مطربة ظهر علي الساحة الغنائية بداية من الثلاثينيات من القرن العشرين، وإلا كانت السينما هدفه ووسيلته في الانتشار، فغير الأسطوانات، والغناء في الأفراح لم تكن أمام المطرب أو المطربة فرصة ليراهم الناس ويتعرفوا علي وجوههم الا الظهور في الأفلام، واللي له في التمثيل واللي مالوش لعب بطولة أفلام، حتي محمد الكحلاوي وعبدالمطلب وفايزة أحمد، ونازك، لعبوا بطولة أفلام، ولكن لم ينجح من نجوم الغناء إلا مجموعة قليلة جدا من المطربين كانت لهم أفلام ينتظرها الجمهور بشغف، وكانوا يتقاضون أجوراً أعلي كثيراً من أجر النجم العادي، وبين نجوم الغناء الرجال حققت أفلام محمد عبدالوهاب نجاحاً كبيراً نظرا لجمال الأغنيات التي قدمها في تلك الأفلام لأول مرة، وكان تعاونه مع المخرج محمد كريم أحد أسباب نجاحه، فقد خرج من الشكل الكلاسيكي للمطرب الوقور إلي شكل أكثر روشنة بمنطق الثلاثينيات والأربعينيات، ولم يصدق عشاقه من أبناء الطبقات الراقية أن الأستاذ عبدالوهاب يمكن أن يظهر في مشهد وهو "يبلبط في البانيو" ويغني المية ياسلام ع المية، في فيلم رصاصة في القلب، وكانت أغنية طبيب روحاني حضرتك التي أداها مع راقية إبراهيم من أشهر أغنيات الأفلام في تلك الحقبة ولازال لها بعض البريق، ولكن محمد عبدالوهاب أدرك أن عمره السينمائي قصير، فانسحب بعد ستة أفلام فقط، حققت له قاعدة شعبية، ضخمة، ولم يظهر في السينما بعد ذلك إلا مرتين الأولي في فيلم غزل البنات حيث قدم أغنية عاشق الروح، وبعدها باكثر من عشر سنوات قدم أغنية هان الود في فيلم منتهي الفرح! كانت أزمة نجوم الغناء أن أيا منهم لم يستطع أن يخرج عن شخصية المطرب الذي يبحث عن فرصة للنجاح في معظم الأفلام التي قاموا ببطولاتها، ورغم كثرة أعداد الأفلام التي ظهر فيها فريد الأطرش مثلا، فقد كان حريصا علي أن يكون اسمه"وحيد في معظمها، أما شخصيته المفضلة فهي إما مطرب مغمور يبحث عن فرصة نجاح ويضطر للعمل في الكباريهات بعض الوقت، أو مطرب مشهور ويقع في غرام راقصة مغمورة! من السهل جدا أن تتلخبط في أفلامه فمعظمها ذات حكايات متشابهة، أما محمد فوزي، فهو كان حريصا أن يكون اسمه منير في معظم أفلامه، وهو أكثر قدرة علي الحركة من فريد الأطرش، وكانت شخصيته التي ظهر بها في كل أفلامه أو فلنقل معظمها وأشهرها علي الشاب الحليوة خفيف الدم، الذي يلهث خلف الفتيات ويقعن في هواه، أو يقع في هواهن، وطبعا أغنياته السينمائية والأوبريتات التي قدمها مع أشهر فاتنات زمنه من مطربات أو راقصات كان لها دورا في نجاح أفلامه! وكان ظهور عبدالحليم حافظ، بداية لتفكير مختلف تماما في تقديم المطرب علي شاشة السينما، ربما تكون أفلامه الأولي لم يتخلص فيها من فكرة أن المطرب ما ينفعش غير أنه يقدم شخصية مطرب في الأفلام، كما حدث في فيلم لحن الوفاء مع شادية وحسين رياض، ولكنه في فيلم أيامنا الحلوة قدم شخصية مختلفة بعض الشيء، وكان أول فيلم يؤكد تمرده علي الصورة النمطية في "ليالي الحب"، مع آمال فريد، حيث قدم شخصية موظف بسيط في شركة ينجح في ابتكار قماش لايحترق، وقدم اختراعه لرئيسه المباشر، فسرقه وقدمه باسمه لرئيس أعلي منه فسرقه وهكذا، وذهب الموظف البسيط أحمد ممتاز "عبدالحليم حافظ" لمنزل صاحب الشركة ليخبره بموضوع اختراعه، فوقع في هوي ابنته الشابة، التي كانت تحتفل بعيد ميلادها في حفل تنكري، واعتقدت أنه مليونير متنكر في ملابس موظف بسيط، قدم عبدالحليم في الفيلم مجموعة من الأغنيات خارج الشكل المتعارف عليه من تقديم الأغاني علي مسرح أو كازينو، أو في حالة يكون فيها المطرب في وضع الثبات وكأنه يقف يغني أمام ميكروفون، كفاية نورك عليه، وياسيدي أمرك، أقول ما أقولش أنا خايف أقول! هي أغنيات سينمائية بحتة لا تصلح أن يقدمها في حفلات، لأنها مرتبطة بموقف درامي سينمائي، وفي أيام وليالي قدم تركيبة تسمح له باستعراض مهارته في الأداء التمثيلي، حيث يرتكب أخوه غير الشقيق جريمة، ويضطر هو للاعتراف بأنه الفاعل، حتي لايعرض صديقه للاتهام، ويعاني من غلظة تصرف زوج أمه، فيفكر في البحث عن والده الذي تخلي عنه وهو لايزال طفلا، وعندما يلتقيان للمرة الأولي يكون المشهد بالغ التأثير وخاصة أن محمود المليجي هو من لعب شخصية الأب السكير الذي يتخلي عن أسرته ثم يشعر بالندم ويحاول إنقاذ ابنه من جريمة لم يرتكبها، وقدم عبدالحليم في هذا الفيلم أغنيات "توبة إن كنت أحبك تاني"، وأغنية "أنا لك علي طول"، وعشانك ياقمر، وشغلوني وشغلوا النوم عن عيني ليالي، أما القفزة الواضحة في حياة عبدالحليم كممثل فقد حدثت في فيلم الوسادة الخالية، المأخوذ عن قصة لإحسان عبدالقدوس وأخرجه صلاح أبوسيف، هنا يؤكد عبدالحليم أنه يستطيع أن ينجح بأقل قدر من الأغنيات في أفلامه، وكانت شخصية الشاب الذي يواجة أزمة فشل حبه الأول، فيقرر أن ينجح ويتألق بعد سنوات من الفشل، فقط ليجعل حبيبته التي تزوجت غيره، تشعر بالندم لأنها تخلت عنه، ورغم أنه تزوج بفتاة من أسرة من وسط اجتماعي أرقي مما كانت عليه حبيبته إلا أنه لم يستطع أن ينسي حبه الأول! هنا قدم عبدالحليم ثلاث أغنيات فقط هي "أول مرة تحب" في يوم من الأيام كان ليه قلب، ومشغول وحياتك مشغول، ونجح الفيلم نجاحاً كبيراً علي المستوي التجاري والفني، وكان أول انطلاقة سينمائية للبني عبد العزيز، الخطايا فيلم آخر يؤكد فيه عبدالحليم قدراته كممثل، مع مراعاة أن فن التمثيل يتطور مثل كل الفنون الأخري، وحتي تستطيع أن تقّيم أداءه بشكل جيد، تابع أسلوب، أداء زملائه من الممثلين المحترفين عماد حمدي، ومديحة يسري وفاخر فاخر!! يوم من عمري فيلم آخر يبتعد فيه عبدالحليم عن شخصية المطرب، ويقدم شخصية صحفي يبحث عن فرصة للنجاح، ويجدها في حكاية ابنة مليونير تهرب من عريسها في المطار، وتلجأ للصحفي دون أن تعرف شخصيته، وتقضي معه يوما من أجمل أيام عمرها وعمره، وعندما يقدم موضوعه الصحفي مدعما بصور نادرة، التقطت لهما في أماكن متفرقة، يكتشف أنه قد وقع في حبها، وأنه بنشر الموضوع سوف يسيء إلي سمعتها، فيتحايل لسحب الموضوع قبل طباعته، شارك في الفيلم زبيدة ثروت، وعبدالسلام النابلسي، ورغم كونه مقتبساً من الفيلم الأمريكي "إجازة في روما"، لجريجوري بيك، وأودري هيبورن، إلا أنه لايقل عنه جمالاً ونجاحاً، وقدم فيه أغنيات ضحك ولعب وجد وحب، بعد إيه أبكي عليه، وبأمر الحب، وكلها أغنيات ترتبط بأحداث الفيلم، ولم يقدم أيا منها في حفلاته الغنائية! وطبعا في حياة عبدالحليم أفلام متواضعة النجاح مثل فتي أحلامي، ودليلة ومعبودة الجماهير، وبنات اليوم والبنات والصيف وهي أفلام لم ينقذها إلا وجوده ونجوميته بالإضافة للأغنيات الرائعة التي قدمها، ويظل أهم أفلامه وأنجحها تجاريا بالإضافة لكونه آخرها أبي فوق الشجرة الذي استمر عرضه لمدة عام، وضرب فيها كل الاشكال المتعارف عليها لتقديم المطرب سينمائيا، ومنها الإفراط في القبلات والعلاقات النسائية، والظهور بشورت والرقص علي البلاج، وهو مالم تكن السينما المصرية، قد اعتادته والغريب أن مطربا آخر بعد عبدالحليم لم يجرؤ علي تقديمه! كان عبدالحليم ينوي تحدي نفسه وقدراته التمثيلية بتقديم فيلم لايعتمد إطلاقا علي الغناء، واختار قصة "لا" للصحفي الراحل مصطفي أمين، والمخرج الجزائري أحمد راشدي وعمل اختبارات كاميرا وصور بعض لقطات له في لندن، ولكن للأسف لم يمهله القدر لتحقيق حلمه أبدا، في حياة عبدالحليم مسلسل إذاعي واحد هو "أرجوك لا تفهمني بسرعة" تأليف محمود عوض، وشاركه البطولة نجلاء فتحي وعادل إمام، وكان عبدالحليم قد كون في الخمسينيات شركة إنتاج سينمائي مع كل من محمد عبدالوهاب ومدير التصوير وحيد فريد، ولكنها لم تكتف بإنتاج أفلام لعبدالحليم فقط، ولكن امتد نشاطها لتقديم أفلام مختلفة منها الراهبة بطولة هند رستم وشمس البارودي وإيهاب نافع وإخراج حسن الإمام، وفيلم مولد يادنيا إخراج حسين كمال وبطولة محمود يس وعفاف راضي، وطبعا حققت هذه الأفلام نجاحا تجاريا وفنيا يفوق الخيال، لم يكن عبدالحليم حافط مجرد مطرب ولكنه كان مؤسسة فنية تمشي علي قدمين، ولايوجد تقريبا شاب يعشق الغناء إلا وغني لعبدالحليم، أو حاول تقليده، أو حتي وجد في الهجوم عليه فرصة لجذب النظر، وقدمت السينما فيلما عن حياتة باسم العندليب كان آخر أفلام أحمد زكي، بمشاركة مني زكي، وسولاف فواخرجي، وإخراج شريف عرفة، كما قدم المخرج التليفزيوني جمال عبدالحميد مسلسلا عن حياة عبدالحليم، ولكنه لم يصادف نجاحا مثل الفيلم السينمائي تماما، كل من حاول الاقتراب من شخصية عبدالحليم حافظ بتقليدها أو تجسيدها أو الهجوم عليها احترق، ياولدي !