لم تُذكر الكلمة عبثاً، في تقرير أصدره مجلس اللوردات البريطاني عن علاقة روسيا بأوروبا، وردت كلمة «ثمة عنصر قوي في تلك العلاقة هي السير أثناء النوم»، وذلك فيما يخص موقف الاتحاد الأوروبي في أزمة أوكرانيا تحديداً، حيث ارتكب قادته «أخطاء كارثية في القراءة»، و«أخذهم الكرملين علي حين غرة»، في أزمة هي الأعنف منذ انتهاء الحرب الباردة مطلع التسعينات من القرن الماضي. (السير نوماً) في ذلك التقرير جاء كإشارة إلي مرجع تاريخي في غاية الأهمية بعنوان (السائرون نياماً.. صيف 1914.. كيف مشت أوروبا نحو الحرب)، للمؤرخ الأسترالي كريستوفر كلارك، وهو أستاذ بجامعة كامبريدج البريطانية، الذي شرح كيف تطاحنت القوي الأوروبية العظمي في حرب عالمية طاحنة، في كتاب لاقي الكثير من الرواج صيف 2014 أي في الذكري المئوية لتلك الحرب، وهو ما يؤكد أن كاتبي تقرير مجلس اللوردات البريطاني اختاروا المصطلح عمداً ومع سبق الإصرار. ويوضح التقرير كيف أن روسيا ابتعدت تدريجياً وعلي مدار عشر سنوات عن دول الاتحاد الأوروبي، التي تجاهلت فك طلاسم هذا التغيير، كما لم تحاول استنتاج ما قد ينجم عنه: (لقد كان الاتحاد الأوروبي بطيئاً في إعادة تقييم سياساته تجاه التطورات الحادثة في روسيا) ومن بين أسباب ذلك الخمول يوضح التقرير (فقدان القدرة علي التحليل الجماعي)، وفي جلسة استماع بمجلس اللوردات اعترف دافيد ليدينجتون، السفير البريطاني للشئون الأوروبية، بأنه كان هناك «ثقب» علي صعيد (القدرات التحليلية فيما يخص روسيا)، وضعف عزاه إلي «افتراضات مختلفة» منذ عهدي ميخائيل جورباتشوف وبوريس يلتسن. بعبارة أخري، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أواخر 1991، لم تعد لندن تعتبر روسيا تهديداً ولا أولوية وفككت فرق الخبراء المختصين بدراسة الشؤون الروسية، الشيء ذاته ينطبق علي دول أوروبا الغربية، فالفرنسي بيير فيمون الذي تم الاستماع إليه في مجلس اللوردات البريطاني، باعتباره أمين عام الدبلوماسية الأوروبية أكد أنه «معجب جداً بعدد الخبراء المختصين بروسيا في الاتحاد الأوروبي مقارنة بالعدد المخصص لهم في الخارجية الفرنسية». تلك الرؤية المفرطة في التفاؤل بنهاية الحرب الباردة وبدخول روسيا في منظومة الدول المؤمنة بالديموقراطية، صادقت علي أطروحة المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما، «نهاية نهاية التاريخ»، الذي توقع انهيار الاتحاد السوفيتي إلي غير رجعة وظهور عالم يحكمه قطب واحد وانتشار الديموقراطية علي الطريقة الغربية. وصول فلاديمير بوتين إلي السلطة عام 2000 لم يغير من تلك الرؤية، وكان لدي لاتحاد الأوروبي الكثير ليفعله: بناء منطقة اليورو، التوسع ناحية دول في أوروبا الوسطي ودول البلطيق، ولكن علامات الخطر القادم من موسكو بدأت في الظهور في النصف الثاني من الألفية الثالثة، ففي عام 2007، ألقي فلاديمير بوتين خطبة في مؤتمر الأمن العالمي بمدينة ميونيخ الألمانية لم يخف فيها رؤية توسعية لروسيا. وفي عام 2008، لم يمنع تدخل موسكو عسكرياً في جورجيا، الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي من بيع حاملتي طائرات هليكوبتر من طراز ميسترال. وفي نفس العام (2008) قدمت كل من فرنسا وألمانيا لروسيا ما يشبه التعهد بوقف توسع حلف شمال الأطلنطي، وكان ذلك خلال قمة أوروبية بالعاصمة الرومانية بوخارست، ولكن موسكو تعاملت مع الأمر ببرود دبلوماسي، كما لم يتم تحديد أي استراتيجية تعامل لبلدان (الجوار المشترك) للاتحاد الأوروبي ولروسيا وعلي رأسها أوكرانيا. وطبقاً لفيونا هيل وكليفورد جادي، مؤلفي السيرة الذاتية لفلاديمير بوتين، التي تم توزيع ملايين النسخ منها في الولاياتالمتحدة بعنوان «السيد بوتين.. عامل في الكرملين» فإن الزعيم الروسي أصيب بصدمة من هشاشة اقتصاد بلاده وهو ما أظهرته الأزمة المالية العالمية عام 2008، فكان التفكير في إنشاء شراكة تجارية اقتصادية مع دولة مجاورة وكانت أوكرانيا لبوتين هي الخيار الأمثل. أما الولاياتالمتحدة التي كانت مشغولة بكيفية مواجهة الصعود اللامعقول للصين بكل المجالات، فقدمت لروسيا مبادرة إعادة تدشين العلاقات الثنائية بينهما علي خلفية مبادرة عُرفت (Reset) أي إعادة التشغيل، وهو ما لم يعد له وجود اليوم. وفي بداية عقد 2010 قام الاتحاد الأوروبي بتجهيز اتفاقيات شراكة مع دول أوروبا الشرقية إضافة للدخول معها في مفاوضات بمجالات مختلفة دون الأخذ في الاعتبار أن أوكرانيا ليست أي جار لروسيا، وفي عام 2012 أٌعيد انتخاب بوتين رئيساً ليبدأ ولايته الثالثة بإعادة تأهيل وتطوير القوات المسلحة الروسية بأموال هائلة، وفي سبتمبر 2013، خلال مؤتمر بمدينة يالطا (إحدي المدن الساحلية بشبه جزيرة القرم)، حذر سيرجي جلازييف، احد مستشاري الرئيس بوتين، من أن السلطة في أوكرانيا ترتكب خطأ فادحاً لو ظنت أن روسيا ستقف مكتوفة الأيدي إزاء توقيعها علي أي اتفاقيات شراكة مع أوروبا الغربية، وعلي صفحات الجارديان البريطانية تحدث الرجل نفسه صراحة ودون أي تورية عن «إمكانية ظهور حركات انفصالية مسلحة في جنوب وشرق أوكرانيا» وعن (إلغاء اتفاقيات تخص الحدود بين روسيا وكييف). علي مدار صيف 2013 لم تتوقف روسيا عن اتخاذ إجراءات انتقامية تجارية بحق دول أوروبا الغربية رداً علي ما قدموه من دعم لما عُرف بثورة «ميدان» في أوكرانيا، التي أطاحت بالرئيس فيكتور يانكوفيتش الموالي لموسكو، ثم جاء قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم التي كانت تابعة لأوكرانيا، وفي يوليو 2014 وقعت مأساة الطائرة (MH17) التابعة للخطوط الجوية الماليزية، وهنا تنبه الأوروبيون بعض الشيء لخطورة التدخل الروسي في أوكرانيا، علماً بأنه في يناير 2014 كان الزعماء الأوروبيون يتحدثون عن روسيا بنبرة مختلفة، فالرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند قال نصاً في مقابلة مع قناة فرانس إنتر: (السيد بوتين لا يريد ضم شرق أوكرانيا.. أنا متأكد من ذلك وهو نفسه أخبرني أنه لا يريد أن يفعل.. كل ما يريده هو أن يبقي فاعلاً). أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فيبدو أنها فهمت قبل جميع الأوروبيين، من ناحية لأنها مستشارة منذ 2005 أي أنها التقت بوتين أكثر من مرة علي مدار عشر سنوات، ومن ناحية أخري لأنها ولدت وتربت وعاشت شبابها فيما كان يٌعرف بألمانيا الشرقية، ذلك البلد الذي عمل به بوتين سنوات طوالا كعميل للمخابرات السوفيتية. ميركل فهمت إذاً النظام السوفيتي من الداخل، ولها مع بوتين نفسه أكثر من موقف، فحينما استقبلها في مدينة سوتشي الروسية تعمد سيد الكرملين أن يترك كلبه (اللابرادور) حراً طليقاً أثناء جلوسه معها، بينما خوف ميركل من الكلاب معروف للجميع، وفي شهر أكتوبر 2014 ضرب لها بوتين موعداً في مدينة ميلانو الإيطالية وتأخر عليها 24 ساعة كاملة لأنه كان يحضر عرضاً عسكرياً في صربيا.. في مارس 2014 قالت ميركل للرئيس الأمريكي باراك أوباما (إن بوتين رجل فقد الاتصال بالواقع إنه يعيش في عالم آخر)، ورغم مرض ميركل وتحذير الأطباء لها من بذل الكثير من الجهد، فإنها أمضت مع بوتين 6 ساعات متواصلة في غرفة اجتماعات ملحقة بغرفته في فندق بمدينة بريسبان الأسترالية في أثناء قمة العشرين نوفمبر الماضي.. كانت ميركل تحاول تقريب وجهات النظر فيما يخص أوكرانيا ولكن دون جدوي. وفي الليلة التالية بمدينة سيدني، بعدما غادر بوتين القمة بدعوي أنه بحاجة إلي النوم، أعربت ميركل عن إحباطها الشديد وقالت صراحةً (إن العالم عاد لزمن الحرب الباردة، حيث يوجد قطبان ووجهتا نظر متعارضتان، وكما أكدت في ميونخ مطلع فبراير الماضي: (سيستمر ذلك وقتاً طويلاً).