"رسموا علي الجدران صورة قاتلي.. فمحت ملامحها ظلال جدائل.. وحفرتُ بالأسنان رسمك داميًا.. وكتبتُ أغنية العذاب الراحل.. وحفرتُ بالأسنان رسمك داميًا.. وكتبت أغنية العذاب الراحل".. هكذا تحدث الشاعر الراحل محمود درويش يوماً عن قوة الكلمة المحفورة علي الجدران، لكن شاعر القضية الفلسطينية الأبرز لم يكن يعرف أن أبناء الألفية الجديدة سيمنحون الجدران قوة إضافية، فمع انطلاق ثورات "الربيع العربي" اكتست جدران مدننا بلوحات فنية من صنع هواة فن "الجرافيتي" (الرسم والكتابة علي الجدران)، فخلدوا الثورة وأحداثها، أبطالها وشخوصها، قديسيها وزبانيتها، في تجربة تنتصر لبساطة رجل الشارع، حظيت بالاهتمام الأبرز مع اندلاع شرارة ثورة "25 يناير 2011". حال "الجرافيتي" بعد مرور أربع سنوات علي الثورة ومع قرب الاحتفال بذكراها "المجيدة"، ليس علي ما يرام، بات مهددًا، الحكومة تطارده، البعض يطالبه بالانزواء بعد انتهاء "التغيير"، لا يرون فيه إلا أحد وجوه الثورة، لا يستحق حياة منفردة، يتم مسحه من شوارع القاهرة والإسكندرية، شارع "محمد محمود" المطل علي ميدان "التحرير"، أيقونة الثورة، شهد جولات من التحدي وموجات من إبداع "الجرافيتي"، كان فعل الثورة الأكثر قدرة علي الإدانة، يرحل الجميع بعد تظاهرات دامية، ليظل الجرافيتي شهادة علي أن الثوار مروا من هنا. تاريخ كامل كتبه مجموعة من الفنانين المجهولين، تركوا لوحاتهم معلقة علي الجدران ورحلوا، كانت شوارع القاهرة التي عانقت القبح طوال سنوات حكم الرئيس "المخلوع" حسني مبارك، ارتدت المدينة الألفية ثوبا أنيق من رسومات بددت الكآبة علي جدرانها الكالحة، حظيت بفرصة لتجديد شبابها مع مجموعة من الشباب الأكثر جرأة وإبداعًا في إدانة نظام مبارك عبر الرسمة والكلمة، أسلحة أعزل يحمل هم الوطن في مواجهة أنظمة مدججة بكل الأسلحة، ظل الجرافيتي رغم محو السلطة التعبير الأكثر صدقًا عن الثورة وحكاياتها واقع الجرافيتي حاليا عبر عنه حمادة الحسيني، أحد فناني الجرافيتي والذي شارك في رسم الكثير من أعمال الجدران إبان فترة الثورة: بأن "فن الجرافيتي انطلق قبل الثورة علي استحياء، كفن مستقل بذاته، واستخدم معظمنا بعض المواد البسيطة، ثم تطورت المسألة وبدأنا في التوسع واستخدام مختلف المواد والخامات، ورسم أعمال اكثر تعقيدًا علي الجدران أشبه ما يكون بلوحة متكاملة، وعندما جاءت الثورة كان فن الجرافيتي علي أهبة الاستعداد". وتابع الحسيني: "الجرافيتي ازدهر مع الثورة حقيقة، لكن ذلك أدي للربط بينه وبين الثورة، واعتقد البعض أنه لا يملك حياة خاصة كفن مستقل، ولأن معظم جرافيتي الثورة ارتبط بالحدث السياسي، لذلك يحاربه البعض الآن وينظر إلي فن الجرافيتي بدونية، والبعض الآخر يطالب بوقف فنا الجرافيتي لأن دوره انتهي بانتهاء الثورة وأحداثها، فللأسف فن الجرافيتي لم يحصل علي شهادة اعتراف من المجتمع باعتباره فناً مستقلا بذاته. وأن اعتبار الجرافيتي "موضة" ثورية انتهت أضر بالفن ذاته، وحصره في زاوية معينة علي الرغم من تناول فن الرسم علي الجدران لمواضيع مختلفة ثقافية واجتماعية واقتصادية. وبينما تصاعدت بعض الأصوات المطالبة بضرورة إزالة الجرافيتي ورسوم الجدران باعتبارها تشوه المنظر العام خاصة أن بعض تلك اللوحات تتضمن سقفا أعلي من الحرية اللفظية، طالب البعض الآخر بضرورة الحافظ علي رسومات الجدران المنتشرة في الشوارع وبالقرب من الميادين الرئيسية في القاهرة والمحافظات، باعتبارها إحدي مكونات مشهد ثورة "25 يناير"، حيث طالب محمد عبلة، الفنان التشكيلي، بضرورة أرشفة جرافيتي الثورة، والعمل علي تصويره والحفاظ عليه، تمهيدًا لدراسته لأنه أحد أهم وسائل التعبير اللحظي عن أحداث الثورة المصرية. وأضاف عبلة : "الجرافيتي فن ينتصر للحرية بامتياز، لأنه علي ارتباط وثيق بالشارع والأماكن المفتوحة، لذلك ازدهر هذا الفن مع الثورة. وذهب عبلة إلي أن الدولة مطالبة بالعمل علي الحفاظ علي "الجرافيتي"، لأنه جزء من ذاكرة ثورة "25 يناير". اجتماعيًا، فسر الدكتور علي ليلة، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، ظاهرة "الجرافيتي"، بإرجاعها إلي أصولها التاريخية المتجذرة في الحضارة الفرعونية، وهو بمثابة الامتداد الطبيعي لفن الجداريات الفرعونية، الجداريات التي كانت تعد للحجاج عند عودتهم من أداء مناسك الحج. والجرافيتي هو الفن الأكثر تعبيرًا عن الطابع الاحتجاجي لفئة الشباب، لأنه أشبه بصرخة جيل الشباب ومحاولة واعية للفت الانتباه صوب قضية حقيقية في المجتمع. جدير بالذكر، أن هناك الكثير من الكتب التي صدرت خلال الفترة الماضية ترصد ظاهرة الجرافيتي وتعمل علي توثيق أشهر الأعمال المنتشرة في الشوارع، ويظل كتاب ميا جروندال، المصورة والصحفية السويدية المقيمة في مصر، بعنوان "جرافيتي الثورة.. فن الشوارع في مصر الجديدة"، أحد أهم هذه الكتب.