تجد جواباً منطقياً عندما تسأل، لماذا يتأخر مشروع أنفقت عليه مئات الملايين لمدة 20 عاماً؟ ستنهال عليك تصريحات المسؤولين التي تصوّر واقعاً وردياً وتبشّر بانفراجةٍ وشيكة. فتعثر مشروع نقل مدابغ مصر القديمة إلي منطقة الروبيكي الصناعية الذي بدأ عام 1995 بغرض إنشاء مدينة عالمية لدباغة الجلود، لا يفوّت الفرصةَ فقط علي اقتصادنا القومي للاستفادة من عوائد تطوير هذه المهنة العريقة، بل ينذر بإهدار 800 مليون جنيه هو المبلغ الذي تم إنفاقه علي المشروع حتي الآن، ويسمح باستمرار الطعنات التي يتلقاها سور مجري العيون الأثري من قِبل مدابغ الجلود الممتدة بمحاذاته، مما يعرضه لخطر الانهيار بفعل مخلفات عملية الدباغة من المواد الكيماوية التي تنهش أحجاره العتيقة. رئيس غرفة دباغة الجلود: شبهة إهدار مال عام تطارد المشروع المشروع 800 مليون جنيه أنفقت علي المرافق والمشروع متوقف منذ سنوات خبراء الآثار: تأخر نقل المدابغ يهدد سور مجري العيون بالانهيار مفارقةٌ تبدو فادحة بين تصريحات المسؤولين عن المشروع الذي بقي حبيس الأدراج خلال الحكومات المتعاقبة، وما تم إنجازه علي أرض الواقع. وربما كان آخرها ما صرح به الدكتور جلال سعيد محافظ القاهرة بانتهاء 80% من المرحلة الأولي من مدينة الجلود بالروبيكي بإشراف هيئة التنمية الصناعية تمهيداً لنقل المدابغ إليها. هذه التصريحات قوبلت بالتشكيك من قبل العاملين في مدابغ مصر القديمة الذين يرون عدم جدية الحكومة في استكمال المشروع وإتمام عملية نقلهم إلي الروبيكي وتوفير ظروف العمل والخدمات المعيشية الملائمة. ما دفع "آخر ساعة" للتوجه إلي موقع "مدينة الجلود" لاستطلاع ماتم إنجازه علي أرض الواقع. انطلقنا علي طريق القاهرة - السويس الصحراوي صوب منطقة الروبيكي الصناعية التي تبعد مسافة 54 كيلو متراً عن العاصمة، تبتلعنا الصحراء في جوفها حتي تطل علينا لافتة حديدية صدِئة تُشير إلي "مشروع توطين المدابغ بالروبيكي" فنعرف أننا قد وصلنا. أمتلئ بالدهشة وأنا أقف وراء الحاجز المروري المتهالك الواقع علي مدخل المكان، مستحضرة تصريحات المسؤولين الوردية حول العمل الذي يجري علي قدمٍ وساق لإتمام المشروع. لم ألمح أي أثرٍ لعمال بناء، لا شيء يخترق الصمت الذي يلف المكان غير صوت نبيل محمد حارس الأمن الذي اتجه إلينا ليسألنا عن سبب تواجدنا، رافضاً دخولنا إلي الموقع بحجة التعليمات الواردة إليه. بصعوبةٍ بالغة سمح لنا حارس الأمن بجولةٍ سريعةٍ داخل "مدينة الجلود" المخصص لها مساحة 517 فدانا. تصوراتك حول المشروع الواعد تتبدل بمجرد أن تطأ قدماك أرض المكان الذي يبدو لك ميتاً، لن تجد هناك غير بضعة هياكل حديدية عارية للنماذج التي يفترض أن تخصص للمدابغ الجديدة، ومجموعة أخري من وحدات المدابغ علي شكل عنابر مسطحة بمقاسات تتراوح مابين 350 متراً إلي 6000 متر، كما هو موضح في لوحاتها التعريفية. أقترب من أحد النماذج المسقوفة بصاجٍ حديدي يبدو عليه التلف، حالة الوحدات تعطيك انطباعاً أنها مقامةٌ منذ فترة بعيدة، لن تجد داخلها غير طبقاتٍ من الرمال تغمر أرضية المكان ونوافذه الزجاجية. بينما توجد في الضفة الأخري للمشروع بضع منشآت تحوي محطات المياه والكهرباء والغاز الطبيعي والصرف الصحي والصرف الصناعي. ولن تجد أثراً لمنشآت مخصصة لسكن العاملين أو وحدات صحية أو مدارس. حيث يؤكد المهندس محمد طنطاوي المدير التنفيذي لمشروع مدينة الجلود التابع للجهاز التنفيذي للمشروعات الصناعية، أن الخطة التي تم وضعها لمدابغ الروبيكي تصنف المشروع علي أنه مشروع صناعي فقط، فحتي الآن لم يدرج في تصميمات الموقع أي خدمات من الوحدات السكنية والعلاجية وخلافها، مشيراً إلي أن ما تم إنجازه من الخطة المستهدفة لإتمام المشروع لا يتجاوز البنية التحتية للمرحلة الأولي التي تضم محطات معالجة الصرف الصحي والصناعي وشبكات الطرق وخطوط الكهرباء ومحطة الغاز، كما تم الانتهاء من عدد 32 منشأة صناعية لوحدات المدابغ بمساحة 30 ألف متر مربع من إجمالي 160 ألف متر نستهدفها لإتمام باقي المدابغ. ويؤكد المهندس محمد طنطاوي أن تعثر مشروع مدينة الجلود علي مدار السنوات الماضية يرجع إلي ضعف التمويل، فالمبالغ التي رصدت أقل بكثير من احتياجاتنا لإتمام المنشآت، والمبلغ الذي أنفق ذهب معظمه إلي أعمال البنية التحتية، موضحاً أن وحدات المدابغ وحدها تحتاج 300 مليون جنيه علي الأقل، وحتي الآن لم نحصل علي المبلغ، لكن هناك اتجاها قويا بوزارة الصناعة لتوفير هذا المبلغ من إجمالي مليار و600 مليون أعلن الوزير عن رصدها لإتمام المشروع وتعويض أصحاب المدابغ غير الراغبين في الانتقال إليه. وعلي الجانب الآخر يؤكد محمد حربي رئيس غرفة دباغة الجلود باتحاد الصناعات وصاحب إحدي المدابغ بمصر القديمة أن هناك علامات استفهام كثيرة تحوم حول مشروع نقل المدابغ منذ بدأ قبل عشرين عاماً تقريباً بصدور القرار رقم 161 لسنة 1995 بتحويل منطقة الروبيكي إلي منطقة صناعية وتخصيصها لإقامة مدينة عالمية للجلود. ، وبالفعل تم رصد 800 مليون جنيه لإتمام المشروع ، وتم تشكيل لجنة، لحصر مدابغ مصر القديمة وقياساتها ورغبات الانتقال، خلصت إلي نقل 600 مصنع، من أصل 1100 مدبغة بسور مجري العيون وتعويض أصحاب المدابغ من غير الراغبين في الانتقال. يضيف: لكننا فوجئنا بعد عدة سنوات بتوقف المشروع بحجة نفاد المبلغ الذي أنفق علي أعمال البنية التحتية للمرحلة الأولي فقط، رغم أن المشروع يفترض أن يتم علي ثلاث مراحل. كما لم يتم الانتهاء إلا من 30 وحدة صناعية من أصل 600 مدبغة. هذه الوحدات للأسف أقيمت منذ عدة سنوات ولكن بسبب تعثر المشروع قضت عليها عوامل التعرية التي أدت إلي تآكل الصاج الخاص بكثير منها، فتراخي المسؤولين عن إتمام المشروع يمثل إهدارا لمئات الملايين التي تم إنفاقها عليه. ويري حربي أن تنفيذ مدينة الجلود بها شبهة لإهدار المال العام، لأن ما تم إنجازه لا يتناسب أبداً مع المبلغ الذي صُرف علي المشروع إلي الآن، حتي أبسط التشطيبات الخاصة بالوحدات لم تتم علي المستوي المطلوب. غير أن الوحدات التي تم الانتهاء منها أنشئت بمقاسات خاطئة، لأنه لم يؤخذ آراء أصحاب المدابغ قبل البدء في تنفيذها. ويؤكد حربي أن أصحاب المدابغ لا يعترضون علي مبدأ النقل في حد ذاته لأنه أصبح أمراً واقعاً، لكن الاعتراض علي الكيفية التي تدير بها الدولة مشروعاً بهذا الحجم، يمس صناعةً عريقة يعيش عليها 70 ألف عامل يعملون في مدابغ مصر القديمة منذ عقود طويلة، فلا يعقل أن يتم انتزاعنا من المنطقة التي ولدنا ونشأنا ومارسنا هذه الحرفة بها، إلي قلب الصحراء دون توفير أبسط حقوقنا في الحياة بإقامة خدماتٍ كافية تتضمن توفير وسائل للمواصلات ووحداتٍ سكنية ومدارس ووحداتٍ صحية مناسبة. لن تحتاج لأكثر من زيارة واحدة إلي منطقة مدابغ مصر القديمة التي تتمدد بمحاذاة سور مجري العيون، لتدرك حتمية نقلها من المكان وفداحة ما ترتب علي المماطلة في تنفيذ المشروع. بمجرد اقترابك يستقبلك الهواء محملاً بروائح الكيماويات الخانقة التي تستخدم في عملية الدباغة حسرةٌ تتملكك وأنت تري الأثر الإسلامي العظيم -الذي بناه السلطان قانصوه الغوري منذ أكثر من 500 عام لينقل مياه النيل إلي قلعة صلاح الدين الأيوبي- يقف وحيداً في مواجهة الزمن والتعديات الصارخة التي تنهش جسده بمخلفات عملية الدباغة، وتجفيف الجلود المشبعة بالأصباغ الكيميائية عليه. بينما تحتاج لتوازن لاعبي الأكروبات كي تعبر الطرق الضيقة إلي ورش ومصانع الدباغة التي تطفو علي مياه الصرف الصحي ومخلفات الصرف الصناعي، بعد تضاعف عدد الورش بشكلٍ عشوائي خلال السنوات الأخيرة. لا يبدو المشهد استثنائياً بالنسبة لعمال المدابغ التي يزيد عمرها علي 120 عاماً. بينما يري الدكتور رأفت النبراوي أستاذ الآثار الإسلامية بكلية الآثار جامعة القاهرة أن استمرار وجود المدابغ وتوسعها في محيط سور مجري العيون، ينذر بكارثة يمكن أن تحل بالسور الذي يعد من أعظم الآثار الإسلامية، وذلك لأن أطنان المواد الكيماوية والمحاليل الحمضية التي تنتج عملية الدباغة التي تلقي بشكلٍ يومي في محيط السور، تؤدي إلي تفتيت وتآكل أحجاره، لأنها تؤثر بشكلٍ مباشر علي تماسك قوام الأثر وأساساته ما يعرضه للانهيار. أما التأثيرات قريبة المدي فتكمن في تغير لون الحجر الأثري وشكله، ونفاذ الروائح الكريهة إليه، ما يسيء إلي المظهر الحضاري للأثر.