تظل النساء نبعا دافئا متدفقا للموضوعات السينمائية.. حكايتها هي الدنيا.. وملخص للإنسانية.. وعنوان للبشرية.. في عالم النساء هناك الجريئات.. المقاتلات.. العنيدات.. اللائي يقتحمن عوالم جديدة.. وهناك من يقبعن تحت ظل القهر لايملكن شيئا من أمر أنفسهن. لكن تظل دائما وأبدا المرأة الأم هي أعظم الكائنات وأفضلهن.. فهي حاضر الإنسانية.. وأبناؤها هم مستقبلها. وفي الدورة ال36 لمهرجان مونبلييه السينمائي لأفلام البحر الأبيض المتوسط كانت هناك العديد من حكايات النساء في أفلام المسابقة الرسمية التي تميزت بثرائها الفني. اخترقت النساء .. عالم الرجال.. مارست العديد من المهن الصعبة التي اعتقد البعض لسنوات طويلة أنها مقصورة علي الرجل فقط.. غزت السماء «طيارة».. والفضاء «رائدة».. «مهن» بعضها صعب.. محفوفة بالمخاطر.. ربما إلي جانب المهارة تحتاج لقوة عضلية قد لا تتوفر للنساء.. ولذلك كان انبهار المخرجة الفرنسية «لوسي بورليتو» بتجربة صديقتها التي اختارت «ميكانيكا» الحاويات البحرية في «البحرية التجارية».. تقول «لوسي»: في ذلك الوقت كنت أستعد لدراسة السينما.. أما صديقتي فقد اختارت مجالا بعيدا تماما، وظللت أحلم بتجربتها.. خاصة عندما تخرجت.. وسافرت في أول مهمة لها استغرقت أربعة أشهر.. مدة طويلة كانت فيها وسط البحار والمحيطات العاتية.. والمرأة الوحيدة بين طاقم الحاوية. هذه التجربة عاشت معي سنوات طويلة.. قبل أن أقرر أن أقدمها في أول أفلامي.. وذلك بعد ثلاثة أفلام قصيرة قدمتها.. وتضيف «لوسي» قائلة.. كان أول شيء فعلته هو الإبحار علي إحدي هذه الحاويات لمدة استغرقت ثلاثة أشهر.. عشت فيها واحدة من طقم البحارة.. كنت «السيدة» الوحيدة العابرة.. الجميع أحاطوني برعايتهم.. لكني رغم ذلك كنت أشعر بالوحدة والغربة وعدم التأقلم بنسبة كبيرة.. هذه المشاعر ساعدتني كثيرا في تجسيد شخصية «أليس» بعد ذلك. «أليس» امرأة في بداية الثلاثينيات من عمرها.. تعمل في ميكانيكا الحاويات.. حياتها منقسمة بين الترحال في المحيطات شهورا طويلة ثم العودة للأرض لمدة قصيرة.. هي لا تستطيع الاستمرار.. وعليها أن تضحي لفترة بألا تكون أما.. هي تقتحم عالم الرجال بعيدا عن الأمومة والاستقرار الأسري.. ولذلك فهي تترك الرجل الذي تحبه لتعيش مغامرة العمل والرحيل في عالم «الآلات» علي ظهر حاوية كبري.. لتكتشف أن القبطان هو من كانت تحبه من قبل.. وفي غرفتها تعثر علي مذكرات «ميكانيكي» توفي.. أو بمعني أدق من تقوم بعمله الآن.. بين قراءة المذكرات.. وافتقاد اليابسة.. والحياة الخشنة للبحارة تجد «أليس» نفسها متورطة في أكثر من علاقة عاطفية.. لتكتشف في لحظة وعي بأنها تعيش حياة «الميكانيكي» السابق.. وتتقمص شخصيته وليس شخصيتها.. تحاول عند العودة استرداد الحبيب الذي تركته.. تصدمها كلماته.. بأنه عليها أن تترك مساحة من الزمن تفصل بينهما فهي لم تعد نفس المرأة التي عرفها.. تعود لزملائها البحارة حيث وجدت المتعة الحقيقية في عملها بينهم.. من خلال الصراع اليومي بين الماكينات الضخمة والعمل علي صيانتها.. لتقوم بآخر رحلة للحاوية قبل أن تحال للمعاش وتُكهن. استطاعت «لوسي» في أول أفلامها «فيدليو» وهو اسم الحاوية الضخمة أن تبرز كفاءتها وقدرتها كمخرجة.. وفي اختيارها أن يكون فيلمها «سكوب» كانت هنا متعة بصرية ممتدة لعالم البحار.. ومما يذكر للمخرجة أنها رفضت التصوير داخل الاستديوهات.. حتي في مشاهد (هياج) البحر.. وعلو الأمواج. وتقول إنه من حسن حظها أن عثرت علي حاوية قديمة، كانت ستقوم بآخر رحلاتها حيث بلغ عمرها ثلاثين عاما.. ووجدت في هذه الحاوية ضالتها وكان جميلا أن يكون هناك تقارب شديد بين الممثلين وطاقم البحارة فقد استفاد الممثلون من حكايات البحارة الكثير. وقد شاركت «لوسي» في كتابة سيناريو الفيلم مع السيناريست «كلارا يورو» أما البطولة فكانت مشتركة بين الفنانة القديرة «أريان لابيد» التي حصلت علي جائزة أحسن ممثلة من مهرجان «لوكارنو» السينمائي 2014.. هذا بالإضافة لكل من الممثلين «ملفيل بوبو».. «وأندرس دانيسلين لي».. وبذلك تكون تجربة (لوسي) المخرجة.. و«أليس» بطلة الفيلم نقطة اقتحام لواحدة من المهن الخطرة البعيدة عن المرأة.. وكانت مقصورة من قبل علي الرجال.. لكن هاهن النساء قادمات. للقهر حدود ومن تسلط امرأة ورغبة منها في التشبه بعالم الرجال وكسر كل التقاليد، إلي امرأة أخري في عالمنا العربي مقهورة من قبل رجل في صورة أب أو أخ أو زوج تصل درجة قهره لها إلي أن تتخلي عن أمومتها.. لتعاني بشدة من ألم نفسي مصاحب للقهر وآخر من فراق الضني والتخلي عن غريزة أساسية وأصيلة في نفس كل امرأة.. كانت تلك مأساة «عامر» الطفل الذي لم يبلغ بعد العاشرة من عمره ويعيش مع والدته الأرملة في كنف خاله بعد رحيل والده.. الخال مستبد.. طاغ.. سكير ويجبر شقيقته الأرملة علي الزواج من رجل قابلا شرطها بأن يرعي ابنها ويسافر معهما إلي بلجيكا.. لكن ما إن يتم الزواج يعلن الزوج الجديد أنه لا مكان للابن في حياتهما.. وأن عليهما الرحيل دونه.. ويمارس عليها شقيقها كل وسائل القهر لتسافر تاركة له ابنها.. ولأنها لا تملك زمام أمرها توافق مضطرة وترحل تاركة الصغير في كنف الخال الذي لا يعيره أي اهتمام ويتركه للشارع.. دون أي اعتناء.. الصغير يلفت أنظار الجارة الإسبانية التي تعيش بمفردها مع شقيقها حيث يعملان معا في دور العرض الوحيدة الموجودة بالبلدة.. مشاعر أمومة تغلب علي «كارمن» «تجاه عامر» تجعلها تصطحبه إلي السينما ليشاهد الأفلام الهندية المؤثرة.. في هذه الأثناء يرتبط عامر بصداقة مع فتي يعمل لدي أحد بائعي الدراجات.. ليعلمه فنون الدفاع عن النفس.. ومن خلال مشاهدة الأفلام تتسع آفاقه ويبدأ عشقه للموسيقي.. وعندما تري كارمن مدي حزنه لرحيل والدته تساعده علي أن يرسل لها خطابا.. حيث إن كل الأموال التي كانت ترسلها له يستولي عليها الخال. ومع وفاة «فرانكو» كان لابد من رحيل «كارمن» وشقيقها من الريف المغربي.. ليشعر عامر بالحزن مجددا، فها هي من كانت بمثابة أم له ترحل.. ليتجدد الأمل.. ولذلك فإنه يختبئ فوق سطح المنزل ليراها قبل الرحيل.. لكن دون وداع، تكفيه أن تظل دموعه حبيسة في عينيه.. وبعد عدة أيام.. خاصة أن الخال دخل السجن.. وبقي الفتي وحيدا في المنزل.. عاد ليتردد علي السينما.. وهذه المرة يفاجأ بعودة أمه إليه حيث تمردت علي «سجانها» الزوج.. وعادت لتأخذ ابنها معها أو تبقي معه هي للأبد. فيلم «وداعا كارمن» إنتاج مغربي بلجيكي إماراتي.. وهو قصة وسيناريو وإخراج «محمد أمين بن عمراوي».. من مواليد المغرب سنة 1969 وذلك قبل أن يسافر إلي بلجيكا في بداية الثمانينيات ليدرس «التسويق» ملتحقا في الوقت نفسه بأكاديمية الفنون قسم السينما.. ليعمل بعد ذلك في الراديو كمقدم برامج.. وفي سنة 2008 عاد للمغرب ليقدم ثلاثة أفلام قصيرة.. «وداعا كارمن» هو فيلمه الروائي الأول.. وفيه يعكس بصدق صورة حقيقية لما كانت عليه المغرب «اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا» في بداية السبعينيات.. وكم كان جميلا أن يحصل نتيجة صدقه الشديد وتميزه الفني علي جائزة أحسن فيلم لجمهور الشباب. الفيلم بطولة «باولينا جالفاس» «سعيد المارسي» «نوميد بالحمدي».