تشغلُ رسومه حيزاً كبيراً من ذاكرتنا الأولي، نرتبطُ بشخصياته التي تزورنا كل أسبوع علي صفحات مجلاتنا المفضلة، تسكننا قصص الأبطال الخارقين وهم يتحركون ويقفزون من كادراتهم المصوّرة، فنشعر أننا أمام فيلم سينمائي ولكن علي الورق، ولا عجب أن يغزو فن "الكوميكس" أو القصص المصورة جميع البيوت لما يملكه من ميزاتٍ جعلت النقاد يطلقون عليه "الفن التاسع". فبالصور المتتابعة و "بالونات" الحوار المقتضب تُشكل قصص الكوميكس عالماً نابضاً بالحياة. لم يقتصر فن الكوميكس علي القصص الموجهة إلي الأطفال، بل اتسعت مضامينه وطرق تقديمه لتناسب مختلف أنواع المضامين الأدبية المقدمة إلي كافة المراحل العمرية، من خلال الروايات المصوّرة التي ظهرت مؤخراً، ولإلقاء الضوء علي النشأة التاريخية لفن الكوميكس والتجارب الرائدة فيه عالمياَ، أقيمَ الأسبوع الماضي "أسبوع الكوميكس الدولي الأول في مصر" "بين الكادرات" (بيكا) الذي تضمن عقد عدة ندوات حول فن الكوميكس وإقامة معارض لرواد فن القصة المصوّرة عربيا الفنانين محمد فواز و ميشيل معلوف، بجانب عدد من الفنانين الذين شاركوا من فرنسا وألمانيا. يؤكد فنان الكوميكس المصري الرائد محمد فواز أن أهمية إقامة مثل هذا الحدث الكبير تكمن في إلقاء الضوء علي التجارب الرائدة في فن الكوميكس عالمياَ من خلال تبادل الخبرات مع الفنانين الأجانب الذين شاركوا من فرنسا وألمانيا، ومانحتاجه حقاً هو تكرار مثل هذه الفعاليات لنعيد فن الكوميكس إلي مكانته التي تليق به، فهذا الفن كما يشير فواز بدأ قوياً في السابق منذ الخمسينيات علي يد الفنان العظيم "بيكار" ومجلة "سندباد" وأعقبها ظهورمجلة "سمير" التي يعتبرها أهم تجربة مصرية وعربية أسست لفن الكوميكس في العالم العربي. يضيف: إلا أن هناك فترات مثّلت انتكاسة لفن الكوميكس في مصر التي بدأت من السبعينيات عندما عوملت المجلات الساخرة ومجلات الكوميكس معاملة حكومية ما أدي لاختناقها بقيود الروتين الحكومي الذي يقتل أي فنان. استمر هذا التراجع في مصر حتي التسعينيات، وقتها ظهرت تجارب رائعة في العديد من الدول العربية التي تفوقت علينا في فن الكوميكس، منها مجلة "ماجد" الإماراتية التي حظيت بشهرة عالمية، من أسباب هذا التدهور أيضا الفجوة التي حدثت بين الصحافة اليومية أو الأسبوعية وفن الكوميكس، فبعد أن كانت تُخصص أهم الصحف اليومية أبواباً لرسوم الكوميكس اختفت بشكل ملحوظ منها، فمنذ عشر سنوات كنت أرسم ملحق "صبيان وبنات" وكان عبارة عن 12 صفحة مرفقة بجريدة الأخبار الأسبوعية، هذا الانفصال أثّر علي رواج القصص المصوّرة واتصالها بالمتلقي. ويشير فوّاز إلي أن المجلة تُعد من أهم وسائط النشر التي تعتمد عليها القصص المصورة، لأنها تخلق نوعاً من الربط بين القارئ وفن الكوميكس، وأهم مافي ذلك هي العلاقة المستمرة والدائمة بين القارئ وشخصياته المفضلة التي يلقاها كل أسبوع علي صفحات المجلة، فإذا نظرنا إلي فئة الأطفال سنجد أن الطفل يتخيل أن هذه الشخصيات حقيقية لذا يجب أن تُحدثه كل أسبوع. لكن المشكلة الحقيقية فيما يخص مجلات القصص المصوّرة الموجهة إلي الأطفال أن كثيرا من القائمين عليها ليسوا متخصصين في هذا النوع من الفن، ولا نجد لديهم دراية كافية بطبيعة الطفل السيكولوجية والخصائص المرتبطة بمراحل تكوينه، وكثيرٌ منهم يقدمون مضامين لاتحترم عقلية الطفل وذكاءه وبالتالي ينفر منها. وعن تجربتي الذاتية أعتقد أن شخصية "باسم" كانت أهم الشخصيات التي قدمتها، وكانت بوابتي لعالم الكوميكس، شخصية "بلية العجيب" أيضاً لاقت نجاحاً كبيراً، تعمدت أن أختار لها اسماً شعبياً يرتبط بالشخصية المصرية البسيطة، ولكن قدمتها بمعايير الفن الراقي، لأن هناك اعتقادا خاطئا لدي بعض فناني الكوميكس أن تقديم المفردات الشعبية في الشخصيات والسيناريو الذي يقدمونه يحتم عليهم النزول بمستوي الفن ليتماشي مع ذلك، وهذا بالطبع غير صحيح. أما ميشيل معلوف الفنان السكندري اللبناني الأصل الذي يُعد من أبرز فناني الكوميكس المصريين، فيشير إلي أن مصر هي التي اخترعت الرسوم المتحركة تاريخياً، الفراعنة اكتشفوا أنه بمقدورك أن تحكي قصة بوضع مجموعة من الرسوم المتجاورة التي تُشير إلي معني مسلسل، وهو ما نراه جلياً من خلال النقوش الموجودة داخل المقابر الفرعونية التي تُجسد معتقدات الفراعنة فيما يتعلق بالإيمان والبعث وحياة مابعد الموت، هذه الفكرة لاتختلف إطلاقاً عن فن الكوميكس الذي يُفترض أن نستغله لنقل ثقافتنا إلي العالم بأسره. فيغيب عن الكثيرين الدور الذي يمكن أن تلعبه القصص المصورة في تأصيل فكرة الهوية والثقافة لدي النشء الجديد. يستحضرُ معلوف من ذاكرته صورة الشخصيات التي ولدت علي يديه والتي تحتل في قلبه مكانة كبيرة: أكثر شخصية أحببتها شخصية "بُمبه المفترس" و "خميس" المشاكس، كذلك شخصية "بلبل" التي استلهمتُ ملامحها من ملامح ابني الصغير، فجميع الشخصيات التي أرسمها هي شخصيات حقيقية أُقابلها في الشارع أو في أي مكان آخر. أتعمد دوماً أن تكون نابعة من واقع الحياة التي نعيشها، أعيش مع شخصياتي وأرصد من خلالها ملامح الشخصية المصرية بتصرفاتها والمواقف التي تُصادفها في الحياة اليومية. وفي سلسلة "أوسكار" علي سبيل المثال قدمتُ قصصاً مصورة تحكي عادات المصريين وطقوس الأفراح لديهم، وجسدت بشكلٍ هزلي الخناقات التي تتم بين أهل العروسة والعريس. هذه التفاصيل إن لم تكن حقيقية تفقد مصداقيتها ووقعها في قلب المتلقي. الفنانة نهي إبراهيم التي تخرجت في كلية الفنون الجميلة قسم الجرافيك والرسوم المتحركة، تمثل الجيل الصاعد من فناني الكوميكس. عن بداياتها مع الفن تقول: ارتبطت بالقصص المصورة منذ طفولتي،تربيت علي فن عمالقة الكوميكس الأستاذ "فواز" و"معلوف" من خلال مجلة " باسم " و بلبل". كنت أُشخبط في كراستي لأحاول رسم الشخصيات وتقليدها. شغفي بالرسوم المتحركة جعلني أختارها تخصصاً لي في دراستي الجامعية. بدأت أرسم بشكلٍ فردي إلي أن انضممت إلي فريق مجلة "مجنون" التي أسستها الدكتورة نهي عباس خلال العام الماضي، المجلة تعد تجربةً جديدة في عالم الكوميكس تجمع مجموعة من فناني الكوميكس المصريين بجانب فنانين من جميع أنحاء الوطن العربي. تتابع: "مجنون" هي تجربة جديدة قائمة علي فكرة رسم القصص المصوّرة بطريقة الكاريكاتير، وهذا اتجاه صعب جداً لأننا نلتزم بشروط الفَنين. بالطبع واجهتنا مشاكل في التمويل لكننا حاولنا التغلب عليها بأفكار أجدد وأكثر فاعلية من النشر المطبوع.