في عام 1949 يعني من 65 سنة - كتب يوسف السباعي رواية خيالية رائعة كروايات الأطفال اسمها " أرض النفاق " .. عن دكان عطار وهمي ، يبيع حبوب لكل نوع من الصفات الإنسانية ، وعلي كل إنسان اختيار شراء الصفة التي يتمناها لتحقيق أحلامه وتغيير حياته للأفضل من وجهة نظره .. الرواية تتحدث عن المجتمع المصري والعربي في نهاية الأربعينيات .. تفضح العوار الاجتماعي والسياسي وقتها ، حيث كانت مصر علي أبواب حرب فلسطين .. وتبشر بقيام الثورة وانتهاء الملكية والاستبداد وهذا ما تحقق . تحولت " أرض النفاق " إلي فيلم عام 68 مازالت أحداثه ساخنة وصادقة تقدم صورة واقعية للإنسان الطيب في كل مجتمع ، وكل زمان ومكان في العالم .. والمصري الطيب الذي اختاره يوسف إدريس هو مسعد أبو السعود فؤاد المهندس موظف ضعيف مظلوم لأنه صابر ومطيع ، يعيش ضحية مدير انتهازي وزوجة متسلطة حتي يفقد صبره من القهر والفقر .. يري الدكان بخياله ، يدخل .. يجد حبوب كرم ، شجاعة ، قوة ، نفاق ، صبر ، تضحية ، أخلاق .. يقرر تغيير أخلاقه الطيبة الضعيفة ، بشراء حبوب أخلاق قبيحة شريرة تناسب المجتمع فلا يجدها ، لأنها تنفد بسرعة.. يطلب حبوب قوة فيخبره العطار أن الشجاعة هي القوة يأخذ حبوب الشجاعة ، وتحوله " بعد عطسة " إلي وحش جبار تخشاه الزوجة المفترية وجبابرة الحارة .. لكنه يدفع ثمن شجاعته واستخدامه قوته المفاجئة بالطرد من البيت وجنحة ضرب تحوله إلي بلطجي رايح في ستين داهية .. يستبدلها بحبوب نفاق .. ينافق ببراعة وفجاجة فيرتفع رئيسا علي مديره الظالم، يتمادي بسعادة فينطلق من الحارة إلي نعيم الثراء السريع والطبقة الأعلي .. لكنه يدفع ثمنا مختلفا عن ثمن الشجاعة ، حيث يصبح عبدا للمال ، يتاجر بكرامته وشرفه وعرضه في مزاد علني ، يغازل مدام فنطاس الشمطاء الملغمة بالماس لتحقيق مصالحه من زوجها المغفل ، ويرسم الخطط لزوجته وعشيقاته لاستنزاف الزبائن .. يتحول مسعد الطيب إلي قواد راق ومرشح لمجلس الشعب عن فقراء الحي الطيبين الصابرين !.. الذين يصدقون وعوده وهو يهتف باكيا من شدة آلامهم التي شاركهم فيها ، وهم شهود عليها " سأجعل من بلبوصكم مكسيا ومن ضعيفكم قويا " .. فيهتفون بفخر يحيا الفقير مسعود .. ثم يرتدي بدلته الفاخرة خلف سرادق الفقراء ، ويعود إلي قصره مع السائق . يسقط مسعد ، يهوي علي جدور رقبته عندما تنفد حبوب النفاق من المدينة .. يأخذ حبوب الصراحة بالغلط فتنهار حياته ، ويفزع من مواجهة حقيقته الجديدة .. يسرق شوال خلاصة الأخلاق ويلقيه في مياه النيل كآخر أمل للتعايش مع المجتمع .. يشرب الجميع فيسود السلام والخير ، ينتهي مفعول الأخلاق فيسود الشر من جديد، ويهرب مسعد من الحياة . نموذج الموظف والمواطن المسالم الضعيف الصابر في الأربعينيات ، هو نفسه الذي انتفض أخيرا في ثورة علي الظلم والفقر ، وهو الذي خرج ينتخب السيسي رئيسا .. أما المدير الانتهازي الذي اختاره يوسف السباعي فهو الأشهر في بلدنا حاليا ، هو من يملك سلطة منصب لا يستحقه .. فيسلب منه المنصب إنسانيته الفطرية ، ويغذي نواقصه يوميا بجرعات زائفة زائلة تزيده جوعا وشرها واستبدادا .. فيتحول إلي عبد لهذه السلطة ومباهجها ومغانمها ..يبحث يوميا عن فريسة من الموظفين تؤكد له قوته ونفوذه .. ولكن إلي حين ، لأن السلطة والمال هما الأسرع للزوال .. فيهوي العبد ويلفظه الأحرار ويقهره المنافقون . الفكرة تضع الإنسان في مواجهة مع نفسه ومجتمعه .. من أنت ، ما هي صفاتك الطيبة وعيوبك وقدراتك وأحلامك ، وكيف تحقق ما تتمناه دون أن تخسر نفسك .. ميزان الحياة يتعادل بالخير والشر لكن مستحيل أن يحيا إنسان أو وطن بدون الأخلاق !.. والإنسان هو عبد اختياراته .