يقولون: إن الشعب المصري ليس له »كتالوج». الكتالوجات تصلح لفهم أسلوب عمل الآلات والأجهزة، وليس الفرد أو الجماعات. مع ذلك يمكن التنبؤ بسلوك جموع الناس وردود أفعالهم إذا عرفت خصائصهم وطبائعهم وسماتهم، وإذا اطلعت علي تاريخهم وتجاربهم وإذا أدركت مكامن ضعفهم ومصادر قوتهم. الشعب المصري فخور بنفسه معتز بتاريخه عاشق لبلاده. واع فطن لما يحقق مصلحة مصر وما يضرها. صبور إذا أدرك سلامة المسار في مشوار حتي لو كان طويلا. ملول إذا افتقد الصدق فيما يسمع أو المصداقية فيمن يتحدث. عنيد إذا حاول أحد أن يثنيه عما يعتقد أنه صحيح. بركان متفجر إذا مست كرامته، أو أسيء إلي بلاده. نقطة ضعفه.. الأفراد والشعوب التي تحب مصر. ومكمن قوته.. إصرار لا ينضب وعزيمة تزيدها المخاطر صلابة فوق صلابة. أحيانا نسيء فهم أنفسنا، أو نقلل منها. الانتخابات الرئاسية التي عشناها الأسبوع الماضي، نموذج علي هذا ربما السبب أن القلق تغلب علي دقة التوقع، وفرط التحسب فاق حسن التقدير. • خلال الأسابيع الماضية، كانت أحاديث المحافل والمنتديات السياسية تدور حول الانتخابات الرئاسية، وتنصب أساسا علي النسبة المتوقعة للحضور. وأذكر أنني في لقاءات مع مسئولين في مواقع مختلفة، ومع محللين سياسيين، وشخصيات عامة كنا نتبادل الرأي والتكهنات حول مستوي الإقبال المنتظر للناخبين. كل الاجتهادات والتوقعات - بلا استثناء - كانت تجمع علي أن انتخابات 2018 لن تتشابه مع انتخابات 2014 إلا في اسم الفائز وهو الرئيس عبدالفتاح السيسي وفي النسبة التي سيحصل عليها من الأصوات الصحيحة. وكل الاجتهادات والتوقعات -في مجملها- كانت تجمع علي أن عدد الحاضرين سيكون في أفضل الأحوال في حدود 12 مليون ناخب أي بنسبة 20٪ من إجمالي الناخبين، قد ينخفض إلي 10 ملايين ناخب بنسبة حضور 17٪ تقريباً، بينما أشد المتفائلين كان يقول: إنه من الممكن وصول عدد الناخبين إلي 15 مليون ناخب أي بنسبة 25٪، شريطة صرف علاوة مالية للعاملين بالدولة، وإجراء تعديل تشريعي لتقديم حوافز لمن يدلي بصوته. منطق كل هؤلاء الذين توقعوا انخفاض نسبة الحضور في انتخابات 2018 عن انتخابات 2014، كان يتمحور حول عدة مقدمات، أولها غلاء الأسعار الذي تعاني منه شرائح الطبقة الوسطي والطبقة محدودة الدخل، والذي أدي في تقديرهم إلي انخفاض شعبية الرئيس، وثانيها غياب المنافسة في الانتخابات مما سيدفع - في تقديرهم أيضا - بأعداد من الناخبين المؤيدين للسيسي إلي الإحجام عن التصويت مادام هو فائزا حتما، وكذلك بأعداد من الناخبين المعارضين إلي المقاطعة، مادام لا يوجد أمامه منافس قوي ينتمي إلي المعارضة، وثالثها انحسار المخاطر الداخلية والخارجية، عما كانت عليه منذ 4 سنوات، وهو أمر يبعث علي شعور بالطمأنينة، ليس من محركات النزول إلي اللجان. اختلف الأمر بعض الشيء في تقديرات النخبة السياسية والمثقفة بعد مشاهد الإقبال الهائل غير المتوقع علي التصويت من جانب المصريين بالخارج. لكن سمعنا أصواتاً تقول: إنه لا يمكن الأخذ بهذه المشاهد كمؤشر علي انتخابات الداخل، لسبب رئيسي هو أن المقيمين بالخارج لا يشعرون بالمعاناة من الأسعار التي يكابدها المواطنون في مصر. وحينما انتهت الأيام الثلاثة للتصويت بما انتهت إليه من مشاهد إقبال غير متصورة اختار الكثيرون وارتاحوا لتفسير وحيد هو: أن الشعب المصري ليس له كتالوج! لعلك تذكر أنني كتبت هنا منذ 5 أسابيع أقول: »رهاني علي كل فئات الشعب وطوائفه وطبقاته التي لا تنسي أين كنا قبل الثلاثين من يونيو، وكيف أصبحنا بعد سنوات الصبر والعمل والإنجاز». وختمت مقالي: »لست قلقاً علي نزول الجماهير المصرية في أيام التصويت الثلاثة، بل أظن إقبالها في اليوم الأول سيكون مفاجئا للكثيرين. الناس نزلت بكثافة في الانتخابات الماضية وهي تتمسك بأهداب أمل وتطارد حلما. هذه المرة، أمسكت بالحلم، وتأبطت واقعا جديدا، وتبصرت ما هو أكثر. لذا الإقبال أوسع في تقديري. والأيام مقبلة». وكتبت في نفس المعني منذ أسبوعين أقول: »يقيني أن الإقبال سيفوق كل توقع، وأن حشود الناخبين من الجماهير أمام اللجان من اليوم الأول، ستجدد المفاجآت السارة وستقدم رسالة مصرية جديدة إلي العالم. وقلت: »لن يحجم الذين لهم حق التصويت عن أداء واجبهم الوطني تجاه بلدهم، وهم يرون الذين ليس لهم حق التصويت يقدمون أرواحهم في سبيل بلدهم». لكن بكل أمانة مع النفس.. لم أكن أتوقع ولا تصورت أن الإقبال الذي تحدثت عنه، سيكون بكل هذا الإصرار والدأب وأيضا بكل هذه البهجة علي الوجوه قبل وبعد التصويت، وبوسائل التعبير المرحة خارج مقار اللجان. دعوات المقاطعة لم تفلح وأعمال الترهيب والترويع لم تثمر. وحملات التيئيس والإحباط والتشكيك والشائعات لم تنجح. بل كلها زادت الشعب تصميما علي النزول إلي اللجان والمشاركة في التصويت. دون استباق لنتائج الانتخابات الرئاسية، التي تعلن اليوم، تقترب أعداد الذين أدلوا بأصواتهم في هذه الانتخابات مع انتخابات 2014 التي بلغت 25٫5 مليون ناخب. النسبة المتوقع حصول المرشح الفائز عليها من جملة الأصوات الصحيحة قد تزيد قليلا عن انتخابات 2014 والتي بلغت 96٫91٪. عدد الأصوات الباطلة ربما يزيد بنسبة 50٪ عن انتخابات 2014 والتي بلغت مليونا و40 ألف صوت، مع الوضع في الاعتبار وجود أعداد لا يستهان بها من مؤيدي الرئيس السيسي أبطلت أصواتهم لقيامهم بتدوين عبارات تدل علي التأييد والمحبة في بطاقات التصويت. وزيادة الأصوات الباطلة ليس عنصرا سلبيا، علي النقيض فإنه يعكس إيجابية من جانب من يعارضون الرئيس ولا يقتنعون بالمرشح المنافس، ووجدوا النزول مع إبطال الصوت أجدي وأكرم من المقاطعة. الفرق بين انتخابات الرئاسة الحالية والماضية هو في نسبة الحضور. عام 2014 بلغت 47٪، وهذه المرة ربما لا تبعد كثيرا عن 40٪. صحيح أن اليوم الثالث للتصويت أبهر المراقبين لوجود إقبال كبير من الناخبين علي التصويت برغم العواصف الترابية غير المسبوقة منذ سنوات التي حلت بالبلاد في هذا اليوم. لكن لا يمكن إغفال أن تلك العواصف الخانقة والحاجبة للرؤية أعاقت كثيرين منهم المرضي وغيرهم عن الذهاب للجان والوقوف في الطوابير ربما لو كانت أجواء اليوم أصفي وأفضل، لكان الإقبال أوسع وأكثر كثافة خاصة أن المعروف عن جانب كبير من الناس هو الاحتشاد في آخر يوم وآخر ساعة، وآخر لحظة، لقضاء مصلحة أو إنجاز شأن أو الحصول علي خدمة! المطالعة المتأنية لمشاهد انتخابات 2018، في اللجان بقري ومدن مصر، والقراءة السريعة لمؤشرات التصويت ودلالاته تكشفان بعض حقائق تدحض انطباعات صارت رغم ضعف أسانيدها في حكم المسلمات السياسية. - الشعبية الكاسحة للرئيس السيسي ليست محل شك أو موضع تشكيك. عندما يحصل مرشح علي نسبة تزيد علي 90٪ من جملة الحضور التي تكاد تقترب من 40٪ من عدد الناخبين، وعندما يحصل علي نسبة تزيد علي 97٪ من إجمالي الأصوات الصحيحة، في انتخابات لم تشبها شائبة تزوير أو تدليس، وعندما تكون مظاهر البهجة والاحتفاء من مؤيديه خارج اللجان، وبعد التصويت، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، علي هذا النحو الذي رأيناه، أظن أي حديث عن شعبية أو تأييد شعبي، هو من قبيل الهزل. - رغم عدم وجود منافسة تقريبا في الانتخابات، وبرغم تكاسل بعض الناس عن الذهاب، اعتقادا بأن الرئيس السيسي فائز فائز، فقد كان الحضور كبيرا، لا يبتعد كثيرا عن أعلي نسبة حضور عرفتها انتخابات أو استفتاءات رئاسية في مصر، ولعلنا نذكر أن انتخابات 2014 كانت أعلي في نسبة حضور الناخبين عن انتخابات 2012 التي بلغت نسبة الحضور في جولتها الأولي 46٪ بالرغم من وجود 13 مرشحا. ولعلنا نذكر أيضا أن نسبة الحضور في انتخابات مجلس النواب الماضية بلغت 26٫5٪، مع وجود آلاف من المرشحين، كل منهم يسعي لحشد مؤيديه ومعارفه والعائلات والعشائر والقبائل التي ينتمي إليها. - الشعب المصري لا يحتاج لمن يلقنه دروسا في التوعية السياسية. هو الأقدر علي التمييز بين الصالح والطالح وبين الصواب والخطأ، وعلي إدراك الباطل المتستر وراء كلمات حق. - الشعب المصري رغم معاناته من غلاء الأسعار، فإنه في معظمه لم يجعلها حائلا دون الذهاب إلي الصناديق، لأنه يعرف أن الغلاء ليس أعراض مرض فشل اقتصادي مزمن، وإنما أعراض مؤقتة لاستشفاء اقتصاد يتعافي. - الشعب المصري أراد أن يبعث للجميع برسالة مؤداها أنه سائر في معركتيه ضد الإرهاب ومن أجل البناء، لا يلوي علي شيء. - مسألة مقاطعة الشباب للانتخابات، تدحضها مشاهد الشبان والفتيات من مختلف الطبقات الذين تقاطروا علي اللجان فرادي وجماعات في القري وفي الأحياء الراقية علي السواء. وأظن تصنيف أعمار الذين أدلوا بأصواتهم في الانتخابات، ومن واقع كشوف التصويت المثبت بها الرقم القومي لكل مرشح، وإجراء تحليل إحصائي لها وإعلانه للكافة بعد الانتخابات، سوف يؤكد أن الترويج لمسألة مقاطعة الشباب، يستند إلي الفضاء الإلكتروني ولا يرتكز إلي حقائق الأمور في الواقع. - مشاهد العملية الانتخابية في الخارج وفي أيامها الثلاثة بالداخل، حتي من قبل إعلان النتائج، هي شهادة وفاة وتصريح دفن سياسي لجماعة الإخوان وحلفائها ومن سار علي نهجهم من فصائل العدميين بعدما كان هؤلاء في حالة موت سريري سياسي خلال السنوات الأربع الماضية. - نتائج الانتخابات التي تدل عليها مؤشراتها، هي هزيمة ساحقة لأعداء مصر في الإقليم، ولقوي دولية كانت مع إدراكها أن رئيس مصر سيفوز، تود لو خرج مثخنا بجراح سياسية من الانتخابات، تضعفه داخليا وتلين عريكته خارجيا، لكنه يخرج منها بعد ساعات أقوي شكيمة وأعز تأييدا، علي صهوة الحضور الكبير والتصويت الكاسح. يبقي أن أهم ما أسفرت عنه العملية الانتخابية، أنها كانت استفتاء علي المستقبل، أكثر منها تأييدا لمسيرة ماض قريب وإنجاز حاضر. ويظل الشعب المصري هو القائد والمعلم.