من أمتع الكتب التي قرأتها ولا أمل من إعادة قراءتها كتاب (في تحديث الثقافة العربية) للدكتور زكي نجيب محمود الصادر عن دار الشروق. الكتاب تحليل للثقافة العربية في مختلف العصور إلي عصرنا الحاضر، وأهمية أن يكون لنا دور في الحضارة المعاصرة وذلك بمواكبة العصر وأدوات النهوض في عصرنا الحديث من تعمق في العلم المعاصر، وأن نشارك في صنع الحياة ولا نكون عالة علي الغرب المتقدم، وعلينا في هذه الحالة أن نغير رؤيتنا العلمية للكون.. فقد أصبحت أصابع العصر في آلاته وأجهزته. إن العالِم في هذا العصر يقرأ العالم قراءة جديدة، فهل يجوز لإنسان يبغي مكانا أو مكانة أن يقف خارج الصف لا يمد يداه ولا يفتح عيناه في انتظار مايتصدق عليه به الآخرون من العلم الجديد ونتائجه. علينا أن نحافظ علي ماينفعنا من التراث ونبذ مالم يعد صالحا للعصر الذي نعيشه ويري من الضروري علي الثقافة العربية أن تصور الواقع حتي لانخدع أنفسنا. ويقول الكاتب الكبير الدكتور زكي نجيب محمود: »لقد أتيح لي ذات يوم بعيد أن أقرأ الكلمات التي ألقاها أعضاء مؤتمر ثقافي دولي ضم من بين أعضائه هؤلاء نفرا من أعلام الفكر في عدد كبير من أقطار الدنيا ومنهم بعض أعلام العرب.. فكان أشد ما استوقف نظري عند المقارنة: أن علماء الغرب وأدباءهم أقاموا نتائجهم علي (تفصيلات) مدروسة، أما نظراؤهم العرب، فكانت كلماتهم أميل إلي التعميمات المجردة الباهتة.. وأذكر أنني همست لنفسي يومئذ قائلا: إن أولئك (يعلمون) وهؤلاء لايعلمون. • وفي أحد فصول الكتاب يفرق بين ناقد الفكر وناقد الأدب.. ويري أن ناقد الأدب وناقد الفكر كلاهما من أقوي عوامل التحديث في ثقافتنا العربية، إذ هما تعقبا نواتج الأدب والفكر بالنقد الموضوعي النزيه والمهتدي بعلم صحيح. ويحدثنا في أحد الفصول تحت عنوان (الأفكار كالأشجار تنمو) فهو يستعرض الأفكار التي تضمنها كتابه (الشرق الفنان) حيث تحدث فيه عن جوهر الثقافة العربية بمقارنتها بكبري الثقافات التي شهدها التاريخ.. كثقافة الشرق الأقصي وثقافة اليونان القديمة، ويري أن علة حياتنا الثقافية الحاضرة أننا جعلنا للماضي رجالا يعيشون فيه ويدافعون عنه. وللحاضر رجالا يحيون فيه ويدافعون عنه. وكأنما الأمر إما هذا أو ذاك. وكأن الطرفين ضدان لايجتمعان في شخص واحد.. وحقيقة الأمر أنه لافكر ولا فن ولا أدب مما يستحق أن يسمي باسمه، إلا إذا كان الأديب أو الفنان علي وعي بتاريخ المجال الذي يبدع فيه، وعلي وعي كذلك بنبض الحياة من حوله. فعندئذ يأتي الناتج جديدا، ولكنه يأتي كذلك حاملا من سمات قومه مايميزه عن قرينه في أمة أخري فالفكرة الجديدة لاتكون أبدا إلا تطويرا لفكره. والفن والأدب لا يولد إلا من أرحام فن أو أدب وهكذا يتحقق الوجود لما يصح أن يسمي بفكر عربي.. أو فن عربي.. أو أدب عربي.. لأنه مرحلة من تاريخ معين من جهة، ولأنه مرحلة جديدة في ذلك التاريخ من جهة أخري. ويحدثنا عن (الفكر الإسلامي وآفاقه الجديدة).. ويري أن ماينبغي أن نفعله بفكرنا الإسلامي اليوم هو أن نصنع بمشكلات حياتنا مثل الذي صنعه الأوائل في مشكلات حياتهم. فلا نتكلف المسائل.. ولا نصنع الصعوبات، ولا نعيد مشكلات السلف وندعي أنها هي مشكلاتنا. إذن فالخطوة الصحيحة الأولي علي الطريق الصحيح، هي أن نسأل أنفسنا صادقين مخلصين: ما هي معوقات السير التي تقيد خطانا في عصرنا؟ وماذا تكون حلولها من منظور إسلامي؟ بمعني أن تجيء تلك الحلول غير متعارضة ولامتناقضة مع العقيدة وشريعتها. وهناك فرق بين أن نبحث عن تلك الحلول فيما بين أيدينا من كتب السلف، وبين أن تصب فاعليتنا العقلية الخاصة علي المشكلات التي تعترضنا.. مراعين ألا تجيء نتائجنا الفكرية غير متعارضة مع أصول العقيدة والشريعة وبمثل هذه الوقفة وحدها يمكن القول بأن لنا ما يصح أن يطلق عليه (الفكر الإسلامي). لأن الفكر في هذه الحالة هو فكرنا.. والمشكلة مشكلتنا. وليس للسلف علينا درجة تتيح أن ننقل عنهم المسائل وحلولها، لأن لنا مسائلنا وينبغي أن تكون لنا حلولها ويقول زكي نجيب محمود: »لقد كان محمد إقبال بكتابه (تجديد الإسلام) نجما من ألمع النجوم بريقا في سماء الفكر الإسلامي الحديث». ولعل أبرز حقيقة مما أورده في ذلك هو دور (العقل) في حياة المسلم، كما أرادها له القرآن الكريم.. فلقد كان الإسلام هو الديانة الوحيدة التي أحالت الإنسان إلي عقله فيما تستحدثه له الحياة من مشكلات ومن هنا كان الإسلام آخر الرسالات الدينية، لأن الرسالة بعد ذلك أصبحت منوطة بعقل الإنسان، وإذا أخذنا باحتكام الإنسان إلي عقله فقد اعترفنا ضمنا بضرورة احتكامه للعلم. والكتاب باختصار شديد هو دعوة لإعمال العقل، ونبذ الخرافة حتي يكون لنا دور في عالم اليوم الذي يسابق ظله نحو التقدم والازدهار.