لم يفاجأ أحد بإعلان براءة مبارك في القضية المعروفة باسم »قتل المتظاهرين»، لكن الرئيس المخلوع يظل مدانا من قبل ومن بعد، فقد سبق لمحكمة النقض أن أدانته بحكم نهائي بات في قضية سرقة أموال القصور الرئاسية، وحكمت عليه مع نجليه علاء وجمال بالسجن لثلاث سنوات، وتغريم ثلاثتهم 147 مليون جنيه، وهي إدانة سالبة للشرف والاعتبار، وتحصيل حاصل رمزي لما يعرفه المصريون عنه، وعن عهده البليد الراكد، والذي نهبت فيه مصر كما لم يحدث في تاريخها الألفي، وانتهت قصته بثورة شعبية عارمة، خلعته وحكمت بإعدام نظامه الذي لم يعدم بعد. وفي قضية قتل المتظاهرين، أيد حكم النقض قرار محكمة الجنايات في المرة الثانية، وكان القاضي حسن الرشيدي انتهي فيها إلي الحكم بتبرئة مبارك، فقد احتكم كما يحتكم القضاة إلي الأوراق، والتي تضمنت خطأ قانونيا، فقد أدرجوا اسم مبارك علي لائحة الاتهام في تاريخ لاحق علي إدراج الآخرين، وكان ذلك سببا كافيا لعدم قبول الدعوي، لكن القاضي الرشيدي أبي أن يترك القصة ناقصة أو معلقة، وترافع عن الشعب المصري في جلسة النطق بالحكم المذاعة علي الهواء، وقال الحقيقة ببساطة، وأعلن أنه لم يجد قانونا يحاكم به آثام وخطايا حكم المخلوع في ثلاثين سنة كبيسة، ولا وجد سبيلا للاقتصاص من جرائم الفساد والاستبداد والنهب والقمع والانحطاط والتدهور والتوريث، وهكذا حرص القاضي علي الإدانة القطعية لمبارك وحكمه، حتي وإن لم يجد في ظاهر الأوراق بخطأ إجراءاتها، ما يمكنه من إنزال العقاب اللازم في قضية قتل مئات المتظاهرين، وقد ظلت أرواحهم تصرخ فينا إلي الآن، تطلب الثأر من القاتلين. وقد لا نحب التعليق علي أحكام القضاء، ولا حتي علي حكم التبرئة، لكن الأسئلة تظل معلقة خارج قاعات المحاكم، والحقيقة تظل تائهة، فلم تجر إدانة متهم ما في قضية قتل المتظاهرين، ولا جري القصاص العادل لدم شهداء ثورة 25 يناير 2011، وقد يقولون لك إن الإخوان هم الذين قتلوهم، لكن أحدا في السلطات القضائية المعنية لم يتهم الإخوان، ولا جري إعداد قرار اتهام ضد أحد من الإخوان في الموضوع، وهو ما يفاقم الحيرة والبلبلة، ويراكم شكوكا لا تجد يقينها، وتبرز الطابع السياسي المحض للقصة كلها، وراجعوا من فضلكم ما جري منذ أول لحظة للثورة، فقد جري خلع مبارك بعد 18 يوما من التظاهر في ميدان التحرير، لكن مبارك وأهله ظلوا مطلقي السراح، يروحون ويجيئون بكامل حريتهم علي مدي شهرين بعد الخلع، ولم يجر القبض عليه مع نجليه ورجاله إلا بعد ستين يوما، ظل خلالها رجل مبارك الأول زكريا عزمي في عمله كالمعتاد بديوان الرئاسة، وكانت الفترة أكثر من كافية لإعدام أي دليل يثبت أي تهمة قضائيا، ولتهريب الأموال بالمليارات عبر وسطاء إلي الخارج، ولظهور مبارك علي النحو الذي ظهر عليه في الجلسات القضائية، وبعد أن تقررت محاكمته تحت ضغط المظاهرات المليونية، فقد ظهر مبارك في المحاكمات إياها علي طريقة إسماعيل ياسين في فيلم شهير، وكان بوسعه أن يردد مع إسماعيل ياسين إيفيه »فتشني فتش»، ناهيك عن طريقة إعداد قرارات الاتهام، وقد بدا الاضطراب المقصود فيها ظاهرا، وكانت العملية كلها مثقوبة، وتؤدي بالحتم إلي نهايات التبرئة بالجملة، وهو ما توقعناه من أول يوم، ودون أن يكون للقضاء الجالس ذنب فيه، وبدليل أن قرارات الاتهام التي أعدت فيما بعد، جاءت الأحكام فيها قاطعة بالإدانة، وعلي طريقة إدانة حبيب العادلي وزير داخلية مبارك في قضية تسخير المجندين، ولايزال السجال القضائي جاريا في قضية تبديد مليارات المصروفات السرية، بالإضافة إلي الإدانة النهائية لمبارك ونجليه في قضية سرقة أموال القصور الرئاسية. وقد انطوت السيرة كلها علي خطأ جوهري مقصود من البداية، فلا يصح إجراء محاكمات عادية عقب ثورة، وإلا جرت إدانة الثورة نفسها، فالثورة بالقانون العادي جريمة قلب نظام حكم، والثورة حدث استثنائي، ينهي نظاما قانونيا ليحل محله آخر، وهو المبدأ الذي جرت مصادرته بعد الثورة، والتصميم علي محاكمة مبارك بقوانين وضعها بنفسه، وبدعوي أن العالم لن يعترف سوي بالمحاكمات العادية لا الثورية، وأن الأموال المهربة لن تعود سوي بالمحاكمات العادية، وتواطأ قادة الإخوان مع فقهاء الفلول في الدعوي المسمومة، وكانت النتيجة علي ما نعرف، فلم يعد مليم مما نهب، ولا انتهينا إلي العقاب المستحق للظالمين والفاسدين.