قارئي العزيز.. كل عام وأنت بخير.. مع مطلع عام هجري جديد هو العام 1438ه.. نحو أربعة عشر قرناً ونيف، ونحن نحتفل في مطلع كل عام منها بهذه الهجرة الرمزية والتاريخية التي وضعت للدنيا تاريخاً جديداً، وصنعت للبشرية ميلاداً مجيداً، لقد كانت هجرة من رسول الله إلي الله، وهجراً من الظلم إلي الحق، ومن الجهل إلي نور العلم، ومن الكفر إلي الإيمان. إنها الرحلة الأعظم في تاريخ الإسلام الذي مهّد للبشرية فجراً جديداً فانطلقت جحافل الخير والنور إلي كل البقاع تحملُ الخير في طياتها وتبعث النور من جنباتها تبددت عصور الظلام، وارتفعت حصون الحق والسلام.. رحلةٌ من الشك إلي اليقين، رحلةٌ من الشرك إلي الحق المبين، فصلاة ربي علي المبعوث رحمةً للعالمين. إنها الذكري المتعاقبة التي تحمل في إشراقاتها كل الحمد والثناء لله الرحمن الرحيم، الذي أكرم الدنيا فبعث إلي الناس » رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة.. إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا » صدقت يا سيدي يارسول الله، كيف نحزن ونحن ندرك أن الله معنا، وكم أدعو في مطلع هذه السنة أن نكون مع الله، كم اتمني في بداية هذا العام أن نعود جميعاً إلي الله. نلجأ ونعتمد عليه، فهو سندنا وحسبنا ونعم الوكيل.. لقد كانت في رأيي المتواضع أعظم ثمار هذه الهجرة النبوية الشريفة، ذلك التآخي وتلك الأخوة في الله نُصرةً له ولرسوله عليه الصلاة والسلام.. والناظر إلي حال أهل المدينةالمنورة قبل هجرته عليه الصلاة والسلام إليها يدرك أنهم كانوا أقواماً شتي بين أوسٍ وخزرج وفي وسطهم يهود يأكلهم الحقد والغيرة من بعثة المصطفي النبي الأمي الخاتم، رغم ماورد في كتابهم ويعرفه علماؤهم. وسبحان من ألّف بين قلوبهم، فأصبحوا بنعمته إخواناً.. وكأن الله أراد لمدينة رسوله أن تكون النموذج الأول والأكبر في وحدة المسلمين، وجمع كلمتهم علي الحق.. وكانت المرحلة الأولي في بناء الدولة الإسلامية القائمة علي العدل والمساواة. فكان نموذج التآخي هذا محققاً للكثير من الأمور التي يحتاجها الناس للإنطلاق إلي نُصرة الدين وإعلاء الكلمة بتوحيد الصفوف. فوظّف عليه الصلاة والسلام من أجل تحقيق التكافل الإجتماعي وتخفيف ألم الفراق للمهاجرين ووحشته.. وظف حاجات المهاجرين إلي الأنصار، والأنصار إلي المهاجرين. فقد عرف عليه الصلاة والسلام، حاجة المهاجرين إلي الأنصار في النصرة والحماية والمواساة بالمال والمتاع، وحاجة الأنصار إلي المهاجرين في تعليمهم أمور دينهم وقراءة القرآن الكريم.. فجادت روافد المحبة بعذب مائها، وفاض الكرم إيثاراً وتضحية، فجاء المجتمع الإسلامي الجديد حافلاً بالتعاون والمحبة والتناصح، والثبات علي المباديء في السرّاء والضرّاء، حتي غدت عاصمة الإسلام الأولي مركزاً لتنظيم العلاقات بين الأفراد في الداخل، ونموذجاً لرسم العلاقات بين المسلمين وجيرانهم في الداخل والخارج. وهكذا إنتصرت إرادة هذه الهجرة المباركة علي الجاهلية والعصبية والقبلية، فكانت كلمة الله هي العليا. وكلما مرت الأعوام وتعاقبت الأيام، وبقي المسلمون علي بعدهم من تلك المبادئ، وعلي نأيهم عنها، زادوا فرقةً وزادوا علي الناس هواناً.. وزاد تكالب الأكلة علي قصعتها. حتي غدت الهجرة اليوم تحمل مفهوماً عكسياً، فبدلاً من أن تكون من مواقع الشرك إلي مواطن الإيمان.. صار الناس في عالمنا العربي والإسلامي - خاصةً في تلك البلدان العزيزة التي ذبُل ربيعها وأمسي خريفاً جافاً - وصيفاً ملتهباً علي مدار الفصول، يأتي إليها الشتاء ليزيد من رجفة اللاجئين في العراء، وحين يهُبُّ عاصف الريح يأتي علي خيام الإيواء، كل هذا يحدث لنا ويتجلي عاماً بعد عام ونحن لا نملك إلا أن نقول : حسبنا الله ونعم الوكيل. جاءت إمرأة تسأل رسول الله عليه الصلاة والسلام وقد كانوا في حالة حرب فقالت له : متي ستنتهي هذه الحرب ؟ فقال لها الحبيب عليه السلام : » عندما يمتلئ الوعاء بحسبنا الله ونعم الوكيل » ولأنه لا ينطق عن الهوي، وكل ما يقوله عليه الصلاة والسلام يطابق ما ورد في القرآن الكريم، بل هو مشتق ومستنير بما جاء فيه.. وكما ذكرت في مرات سابقة : أن المعيار الأقوم والأسلم لمعرفة الحديث الصحيح من غيره هو ما جاء فيه مطابقاً ومتفقاً مع كلام الله جلَّ في عُلاه : يقول ربنا تبارك وتعالي في سورة آل عمران : »الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» ثم جاءت تكملة الآيات الكريمة لتؤكد النتيجة العظيمة : »فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ». وصدق الله القائل في الآية الحادية عشرة من سورة الرعد : »إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّي يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ» وهذه كما غيرها من آيات الله، آيةٌ عظيمة، تؤكد - ماهو مؤكد - من عدل الله وحكمته، فقد أوضح أن تغيير الحال مرهون بتغيير الأحوال. فالشر لا يصرفه إلا الإنتقال إلي الخير، والفساد لا يدفعه إلا الرجوع إلي التقوي، والظلم لا يرفعه إلا العودة إلي الحق. فلا أسلحة ولا جيوش ولا مال ولا جاه يحقق لأصحابه العزة والمنعة إذا لم يعودوا إلي الله.. »مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ » فاطر الآية العاشرة. والكلم الطيب هو ما يخص ذكر الله شهادةً وتسبيحاً وإستغفاراً ودعاء لا ينقطع، وأما العمل الصالح فهو كل عمل يقدمه العبد ويفعله خالصاً لوجه الله تعالي، وليس لإرضاء الناس أو إستمالةً لقلوبهم لكسب أغراض دنيوية لا تغني ولا تسمن من جوع.