التحدي الذي يمكن أن يصادفه أي سينمائي، يقترب من تقديم إحدي الشخصيات العامة التي كان لها تأثير واضح في حياة الناس ، سواء في مجال السياسة أو العلوم والفنون والآداب أو الرياضة، يكمن في الصورة الذهنية التي يحتفظ بها الجمهور لتلك الشخصية ولا يرضوا عنها بديلا، أو تلك التوقعات التي ينتظرها الجمهور عن الشخصية، وكلما كانت الشخصية تعيش في العصر الحاضر، ولها تسجيلات بالصوت والصورة، ازدادت الأمور تعقيدا وارتباكا، سواء بالنسبة للممثل الذي يجسدها أو لكاتب السيناريو الذي ينتقي من رحلة حياتها أهم ما يراه، أو من المخرج وبقية فريق العمل، ويصبح السؤال هل نتعامل مع المناطق المضيئة فقط من حياة الشخصيات العامة، أم نتعرض للزلات الإنسانية أيضا؟ في كل الحالات الأمر شائك وشديد التعقيد، ويندر أن تجد فيلما أو عملا فنيا من تلك النوعيه ينال الرضا الجماهيري والفني في آن واحد، العام الماضي تم تقديم أكثر من عمل فني تناول شخصية المخرج الإنجليزي الشهير ألفريد هيتشكوك رائد سينما التشويق والإثارة والغموض في العالم، كان أولها في فيلم يحمل اسمه من بطولة أنتوني هوبكنز وهيلين ميلين وسكارليت جوهانسين، وطبعا لم يتناول الفيلم كل حياة هيتشكوك ونشأته ورحلته مع النجاح لأنها قصة طويلة لرجل عاش ما يقرب من ثمانين عاما، واستقطع الفيلم من حياته ما يقرب من عام، فقط وهي الفترة التي كان يصارع فيها لتقديم فيلمه الأشهر "سايكو" ، وطبعا لم يحقق الفيلم نجاحا يرضي طموح صناعه، رغم بعض اللمحات الإبداعية التي قدمها، وكان الفيلم الثاني عن هيتشكوك، باسم الفتاة، ودارت أحداث الفيلم عن تيبي هيدرين التي اختارها هيتشكوك لتلعب بطولة فيلم الطيور، ووقع في غرامها فلما قابلت هذا الغرام الجارف بالنفور والصد، تعمد أن يحطمها فنيا، ربما كان الفيلم أقوي دراميا من سابقه، وتم ترشيح بطله توبي جونز لجائزة إيمي وللجولدن جلوب، ولكنه أي الفيلم كان صادما لعشاق المخرج الإنجليزي الذين كانوا يرون فيه عبقريا فذا لايمكن المساس بشخصه، وسوف يتجدد الحديث عن شخصية هيتشكوك مرة أخري ، عند عرض فيلم جريس كيلي ، الذي تلعب بطولته نيكول كيدمان وسوف يتم عرضه مع نهاية العام، أما فيلم أسبوع مع مارلين الذي يتناول فترة قصيرة جدا من حياة النجمة الأسطورة مارلين مونرو، أثناء تصويرها فيلم الأمير وفتاه الاستعراض أمام لورانس أوليفيه، ولعبت بطولته ميشيل ويليامز، فقد أظهر النجمة الأسطورة في شخصية فتاة بائسة مكتئبة تعاني من اضطرابات نفسية، وإحساس دائم بالدونية! ولم يكن هذا ما يتوقعه الجمهور طبعا، وقد تم ترشيح بطلته للأوسكار والجولدن جلوب ، وكان معظم اعتراض الجماهير التي عشقت فن عازف البيانو الأشهر في سنوات الستينيات "ليبراتشي "علي فيلم خلف الشمعدانات الذي لعب بطولته مايكل دوجلاس ومات ديمون وأخرجه ستيفن سوديلبرج، أن الفيلم أسرف كثيرا، في تصوير الجزء الخاص بمثليته الجنسية وعلاقته الشائكة بصديقه الشاب الذي كان أحد أسباب ارتباكه ومشاكله الاجتماعية، ولم يمنح الفيلم المساحة الكافية التي توضح قيمة الرجل الفنية، ولا أسباب تميزه كعازف ورجل استعراض ملأ الدنيا بهجة وفنا ولازالت تسجيلاته باقية تدلل علي ندرة موهبته، ولكن الفيلم أغفل كل هذا، وركز علي صناعه علي ما اعتقدوا أنه الأكثر إثارة في حياته، ورغم أن مايكل دوجلاس حصل علي جائزة إيمي عن تجسيده لشخصيه عازف البيانو ليبراتشي ، لكن يظل الفيلم غير منصف في تناول شخصيته! ربما يكون تناول حياة العلماء أو رجال الفكر أكثر تعقيدا من حياة أهل الفن، لأن شرح أهمية العالم أو الكاتب أو المخترع، يصعب تقديمها من خلال إبداعهم العلمي ، وهو أمر معقد بالنسبة للجمهور العادي الذي لن يستهويه متابعة فيلم عن نظرية علمية أو جدلية، وهنا يتحتم علي صناع تلك النوعية من الأفلام، البحث عن المناطق الإنسانية في حياة هذا العالم أو المخترع، وربما يكون أهم فيلم تم تقديمه في هذا المجال هو "العقل الجميل" الذي استعرض لمحات في حياة عالم الرياضيات"جون ناش" الذي جسد شخصيته بعبقرية راسل كرو، في فيلم للمخرج رون هوارد، ولم يكن يسيرا علي المخرج توضيح النظرية العلمية التي تبناها "جون ناش" وتأثيرها علي البشرية، بصريا ولكنه علي أي حال فعلها، بأسلوب إبداعي رائع، ولكن كان تركيز الفيلم علي تركيبة شخصية العالم الكبير ، الذي كان يعاني من إصابة ببعض الخيالات والهلاوس السمعية البصريه، إذن الجانب الإنساني هو ما أعطي فيلم العقل الجميل قيمته الفنية والإبداعية! عالم الكمبيوتر والإنترنت ، قلب حياة البشرية رأسا علي عقب، وأحدث ثورة في عالم الاتصال وتبادل المعلومات، وجعل من الكرة الأرضية قرية صغيرة يراقب كل فرد فيها مايحدث في بقية أطرافها بمنتهي السهولة، في منتصف السبعينيات بشكل خاص، بدأت هذه الثوره فيما لايقل أهمية عن الثورة التي أحدثتها اختراع آلة الطباعة في عصر النهضه بأوروبا، وظهر علي السطح أسماء نجوم عالم الكمبيوتر مثل بيل جيتس الذي أصبح من أغني رجال العالم في السنوات العشر الأخيرة وهو الذي قدم للعالم إنجاز الميكروسوفت، وستيف جوبز الذي قدم للعالم منتجات الآبل والآي فون والآي باد، ومارك زوكيلبيرج صاحب أهم موقع للتواصل الاجتماعي "الفيس بوك "، وعنه قدمت السينما فيلم باسم "SOCIAL NETWORK " من إخراج دافيد فينشر، وهذا العام قدمت السينما فيلما عن ستيف جوبز العبقري الذي طور في فكرة أجهزة الكومبيوتر وأضاف إليها إمكانيات حولتها إلي جهاز لايمكن الاستغناء عنه في كافة المجالات، توفي ستيف جوبز منذ عامين إثر إصابته بمرض السرطان، وترك الدنيا وهو في أوج مجده وهو في حوالي الخامسة والخمسين من عمره، الفيلم يحمل اسم "جوبز" من بطولة أشتون كوتشر، وإخراج جوشوا مايكل ستيم، والفيلم يصادف نفس المشكلة التي تواجه كل فيلم يتعرض لحياة أحد الشخصيات التي أثرت في حياتنا، في الزمن الحالي وصورة وتسجيلاته تملأ الدنيا، وقصة نجاحه أصبحت هدفا لطلاب المجد والشهرة والثراء، الجمهور يتوقع أن يتابع من خلال الفيلم مراحل تطور فكرة الكمبيوتر والإضافات التي قدمها ستيف جوبز لتطويره، وتسهيل التعامل معه، وطبعا هذا قد يتطلب فيلما مدته لاتقل عن أربعة ساعات، وفريق آخر توقع أن يقدم رحلة ستيف جوبز، منذ أن كان طفلا لقيطا تبنته إحدي العائلات متوسطة الحال، وساعدت في إنشائه وتدعيمه حتي صار ما أصبح عليه من مجد وشهرة ونجاح ، ثم رحلته مع مرض السرطان الذي أودي بحياته، ولكن الفيلم لم يقدم أي من تلك المراحل وقد مر عليها في سرعة ودون توقف أو تركيز، ولكنه قدم كيفية تطويره للكمبيوتر التقليدي ، وفريق العمل الذي شاركه رحلة النجاح، وشقائه الدائم في البحث عن تمويل لمشروعه، ثم الصراع علي المكاسب والأرباح والنفوذ، بينه وبين شركائه! حتي تحولت آبل من مجرد شركة وهمية تدار من جراج في مسكن اسرة ستيف جوبز لواحدة أكبر شركات العالم في مجال الكمبيوتر والإلكترونيات، هل الموضوع علي هذا الحال، يضمن نجاح الفيلم ؟ سيبك من توقعات البعض بمشاهدة كل تفاصيل حياة ستيف جوبز، ولا أهمية ماقدمه للعالم، لأن هذا الموضوع تناوله فيلم تسجيلي من إنتاج البي بي سي ، تحت اسم كيف غير ستيف جوبز من حياة البشرية، ولكن الفيلم الروائي الذي يحمل اسمه، يضم كل عناصر الصراع، ويقدم متعة كاملة حتي لشخص بسيط لايهمه متابعة تطور فكرة الكمبيوتر كما قدمها جوبز، إننا هنا أمام شاب من بيئة بسيطة، يبدو غريب الأطوار مثل معظم العباقرة، حياته تتمركز حول هدف واحد، هو تقديم كمبيوتر عصري، في حجم مناسب يجعله أداة حتمية في يد كل مواطن، من خلاله يتابع أحداث الدنيا، يحفظ عليه آلاف الأغاني وقطع الموسيقي، ومئات الأفلام والصور ، والكتب ، ويستطيع أن يكتب عليه ، ويحفظ ما يكتبه ويرسله لآخرين، يعني حياة كاملة يقدمها هذا الجهاز الذي كان عدما قبل السبعينيات، ستيف جوبز كما قدمه الفيلم، شاب طموح بشكل مخيف، لدرجة أنه يمكن أن يدوس علي أي علاقة إنسانية يمكن أن تعطله عن مساره، ولذلك فهو يتعامل بندالة منقطعة النظير مع الفتاة التي أجبته، لمجرد، أن أخبرته بحملها، وشعر أن الزواج منها أو الاعتراف بطفلها يمكن أن يؤجل أحلامه أو يربكها، أنه يتخلي عن أصدقائه أو يهملهم بمجرد أن تنتهي أدوارهم، لا وقت لديه للمشاعر الإنسانية فهي نقطة ضعف تخلص منها وتعذب بها ، ليس له في الحياة سوي هدف واحد ، تلخص في آبل ، شركته الصغيرة التي أصبحت مشروعا ضخما، يتصارع عليه الشركاء، تابعناه وهو يتعذب وينهار عندما تم الإطاحة به، من الشركه التي كونها، لمجرد أن البعض شعر أن طموحه مدمر وأنه كما وصفوه قنبلة موقوتة يمكن ان تنفجر في الجميع، ولكنه انتصر في النهاية، وتمكن بالإطاحة بمن وقفوا ضده!! دراما مكتملة الأركان، ممتعة، للغاية تلخص حياة الطموح الطاغي الذي يُسعد ويشقي من يبتلي به، الفيلم يعتبر بداية مرحلة جديدة في حياة النجم الشاب أشتون كوتشنر، أتوقع أن يصل به الدور إلي الترشح للأوسكار، فقد لبسته الشخصية، فتحرك مثلها، وبدا كأنه يرمي بنصفه الأعلي وهو يسير كأنه يرغب في أن تسبق حركته قدرة ساقيه علي التحمل! وعبر عن لحظات الغضب المكتوم، والتمرد، والاستسلام والترقب والتآمر ، والتفكير والإبداع والضعف والقوة والتوهج بمقدره فائقة، لاتتوقع أن تشاهد كل حياة ستيف جوبز وماقدمه من إنجاز تكنولوجي في عالم الكمبيوتر من خلال فيلم مدته ساعتين ولكنك بالتأكيد سوف تابع قصة كفاح وطموح لرجل يعتبر فلتة في زمانه سوف يذكره التاريخ للابد!