هناك خطأ شائع مصدره الجهل والتشوه العقلى والروحى الذى أشاعه حكم الطغاة اللصوص وتحكمهم الطويل فى مسار حياة شعوبنا وأوطاننا، ألا وهو الظن بأن عنف وإجرام الأعداء (ديكتاتوريين وغيرهم) لا بد من مواجهته بأفعال من الجنس نفسه، غير أن هذا النوع من التفكير الغرائزى البدائى يفضى عادة إلى كوارث ويصنع أسلحة فاسدة سرعان ما ترتد قذائفها القاتلة إلى صدور الثوار أنفسهم، وشعوبهم ومجتمعاتهم أيضا. إن الحفاظ على حدود وروادع أخلاقية والإبقاء عليها مرعية ومقدسة فى أثناء ممارسة أفعال المقاومة والثورة، هو أصلا ضرورة عملية وليست مجرد التزام معنوى بقيم ومبادئ سامية، تؤكد أن الثوار والمقاومين يناضلون لبناء نموذج حياة إنسانية أرقى وأكثر تحضرًا، ويسعون لرسم مستقبل بملامح نقيضة تماما لملامح الواقع الملوث بالفحش والظلم والقهر والقسوة. لكن، لماذا التفوق الأخلاقى لأى ثورة هو ضرورة عملية؟! لسببين، أولهما الاختلال الفادح فى توازن القوى بين الثورة وأعدائها، إذ دائما وأبدا ما يتمتع العدو بقوة قمع وآلة بطش مادى رهيبة، ومن ثم هناك استحالة مطلقة أن ينجح الثوار فى مجاراة عنف العدو ومواجهته بمثله، فضلا عن هزيمته بهذا السلاح، لذلك فالسبيل الوحيدة لتعويض هذا الفارق الرهيب فى القوة المادية، هو تعظيم قوة الأخلاق التى تبدأ بعدالة قضية الثورة ونبل مقاصد الثوار وتصل إلى ذروتها بصرامة الالتزام بالمعايير والروادع الأخلاقية.. عندئذ ينسحق العدو رويدا رويدا ولا تعود لآلته القمعية أية قيمة سوى أنها تفاقم أزمته وتقرب يوم هزيمته. أما السبب الثانى فهو أن التوسل بالعنف الأهوج واستباحة الخروج على معايير الأخلاق واستسهال ارتكابات وممارسات واطية ومنفلتة من عقال القانون والضمير بحجة أن العدو واطى ولا أخلاق له ولا ضمير، هو أمر إذا بدأ ومر مرور الكرام فلن ينتهى بهزيمة الخصوم، ولكنه سيفتح كل أبواب الجحيم وستطال نيرانه حتما صفوف إخوة الثورة ورفاق الكفاح، فيأكلون بعضهم بعضا بحجج وذرائع لا أول لها ولا آخر.. وهذا هو درس تاريخ الثورات التى تسامحت مع العنف المجانى والانفلات الخلقى. وأختم بواقعة واحدة من سيل وقائع الثورة الفرنسية سجّلها مؤرخها الأعظم «ميشيليه».. يصف المؤرخ الفرنسى الكبير جزءا من مشهد اقتحام ثوار باريس سجن الباستيل الرهيب يوم 14 يوليو 1789 «صار يوم العيد الوطنى لفرنسا» قائلا: .. بعدما يأس القومندان «دى لونى» قائد حرس الباستيل من قدرة قواته على صد الثائرين وهزيمتهم، طلب من قادة الثوار أن يسمحوا له بالاستسلام بشرط الحفاظ على حياته، فوعده رجل يدعى «هولان» بالأمان.. إلا أن الرجل وجد صعوبة بالغة فى الوفاء بوعده، فمن ذا الذى يستطيع أن يكبح روح الانتقام عند جماهير شُحنت عبر قرون طويلة بالقهر والظلم.. كانت الجماهير غاضبة وعمياء وسكرانة بالنصر، ومع ذلك لم يقتلوا فى فناء الباستيل سوى رجل واحد من الحرس، لكن عندما تحرك الجمع الغفير متجها إلى ميدان «الجريف» انضمت إليه جماعات أخرى من الناس لم تشترك فى معركة اقتحام السجن الرهيب، وعز عليها ذلك، فقررت أن تشارك بشىء ولو بقتل الأسرى، فقتلوا واحدا فى شارع تورنيل، وقتلوا آخر على رصيف نهر السين.. وبقى القومندان «دى لونى» فى حماية «هولان»، الذى استخدم ضخامته وقوته البدنية الهائلة فى صد قبضات الجماهير الهائجة عن أسيره.. وظل الرجل يتلقى الضربات ويستبسل فى الدفاع عن القومندان حتى سقط فى دوامة كتلة بشرية مهولة حاصرته وضغطت عليه بجنون، ففقدَ توازنه لحظة، وعندما عاد ليصلب طوله من جديد رأى رأس «دى لونى» معلقًا فى طرف حربة.. هذه السطور معادة، وأهديها إلى بعض شبابنا الثورى النبيل الذى أخشى أنه بات ينزلق رويدا رويدا ومدفوعا بالبراءة إلى نوع من الفوضى العقلية التى تزين له استبدال الوسائل بالأهداف وتمجيد الأولى على حساب الثانية، واعتبار مجرد الخروج إلى الشوارع عملا ثوريا بذاته ودون النظر إلى مشروعية الغاية أو السبب (المشاركة فى احتجاجات «أولاد أبو إسماعيل» مثالا نموذجيا.. مع الإقرار أن التضامن مع حق هؤلاء فى التعبير السلمى وإدانة جريمة العدوان الهمجى عليهم واجب لا يمكن التنصل منه)، لكن الأخطر والأهم ضمن مظاهر الفوضى هذه، ما بدأت ألمحه من ابتعاد شبه غريزى «ولو متردد» عن الإيمان بأن سلمية وسائل وأدوات الاحتجاج هى أقوى وأمضى الأسلحة الثورية.