لا شك أن المشهد السياسى فى مصر الآن وعلى مدار الفترة الانتقالية المقرر انتهاؤها رسميا -حسبما أعلن- فى 30 يونيو 2012، عبثى، ويبدو أنه من شدة عبثيته وفوضويته أنه أُصيب بارتباك أصبح واضحا أمام أعين البسطاء وليس المحللين السياسيين الذين يبحثون خلف الأشياء الظاهرة أو فى الأجزاء المخفية تحت السطح أو الغارقة فى المياه، والتى لا يراها الجمهور العادى.. ويمكن رصد المشهد العبثى المرتبك فى ما يلى: 1- محاولة الدمج القهرى فى عملية سياسية طويلة الأمد تستهدف تبريد الثورة، ثم الالتفاف حولها، ثم الانقضاض عليها وإجهاض الثورة، لتصبح كأن لم تكن، وقد طرح المجلس العسكرى رؤيته على مراحل، لإنهاك القوى السياسية وتفتيتها والتعامل معها بآلية الفتنة السياسية، وبدأ ذلك بلجنة تعديل الدستور التى انجرفت إليها جماعة الإخوان المسلمين، وأعقبها استفتاء الفتنة فى 19 مارس 2011، ثم أعقبهما إعلان دستورى فى 30 مارس، الذى شكل إطار المرجعية للعملية السياسية حتى هذه اللحظة، وأضحى «قدس الأقداس» لا يجب المساس به مهما حدث. 2- التوظيف السياسى لجماعة الإخوان المسلمين المتشوقين للسلطة، ابتداء من الاعتراف الرسمى بهم وإتاحة الفرصة لإنشاء حزبهم، وكذلك جماعات السلفيين الذين كانوا يعملون تحت إمرة وتعليمات جهاز أمن الدولة المنحل، وتحت إمرة وتعليمات الأمن الوطنى والشرطة العسكرية حاليا، وكان من جراء ذلك الاستعلاء السياسى لهؤلاء على المجتمع والقوى السياسية الأخرى، وصل إلى ممارسات تعكس الغرور السياسى غير المسبوق، وتجسد ذلك فى صفقة واضحة المعالم بين المجلس العسكرى والإخوان بصفة أساسية وتابعهما السلفيون تحت رعاية أمريكية ومباركة واضحة، حيث تجمعهم المصلحة السياسية، وتُرجم ذلك فى سلوك واضح فى رقعة مشتركة بينهم، وقد سميت هذه الصفقة «صفقة المثلث الشيطانى»، لأنها لا تتم إلا بين شياطين تجمعهم المصلحة وكراهية الثورة وعدم الاعتراف بها والقفز عليها. 3- اختيار نظام انتخابى يجمع بين القائمة والنظام الفردى، وبنسب معروف سلفا عدم سلامتها الدستورية، الأمر الذى يمكن أن يؤدى إلى إبطال البرلمان المنتخب الذى مكث ثلاثة أشهر حتى تم انتخابه، وتابعه مجلس الشورى الذى استمر شهرين، ليسيطر عليهما أغلبية: 70٪ للإخوان والسلفيين فى مجلس الشعب، و85٪ لهما أيضا فى مجلس الشورى، والآن فإن المجلسين يُهدد ببطلانهما خلال الأسابيع القادمة أمام المحكمة الدستورية، وكنت أول من رفع دعوى البطلان ورفضت الاندماج أو مجرد الاشتراك فى هذه العملية السياسية الوهمية البطالة باعتبارها خطيئة سياسية فى حق الثورة والثوار، وأزعم أننى واحد منهم. 4- انتخابات البرلمان «الشعب» ثم «الشورى» لمدة خمسة أشهر، بدأت فى أكتوبر 2011 لتنتهى فى فبراير 2012، وهى عملية طويلة الأمد شابتها كل العيوب والمخالفات والتكاليف التى وصلت إلى نحو 6 مليارات جنيه، ومعروف مسبقا بطلانها الدستورى، إلا أنها كانت تستهدف الطفو السياسى على السطح لجماعة الإخوان وحزبها، والسلفيين وأحزابهم، لترجمة الصفقة السياسية وإدارة باقى الفترة الانتقالية. 5- تجديد الثورة فى عيدها الأول، 25 يناير 2012، (أطراف الصفقة يحتفلون والقوى الثورية تؤكد المطالب وتواصل الثورة)، فى ذات الوقت سادت نغمة البرلمان بديلا للميدان، وتصارعت الشرعيتان حتى انتصرت شرعية الميدان مرة أخرى بتراجع الإخوان بعد تهديد مصالحهم، ونزلوا إلى الميدان مرة أخرى فى 13 أبريل، ومستمرون حتى الآن فى مليونيات كل جمعة تحت مسمى مختلف، وآخرها جمعة 27 أبريل لإنقاذ الثورة!! وعودة شرعية الميدان تثبت أن الصفقة بين الإخوان والمجلس العسكرى تعرضت للترنح، وأضحى ما كان مصلحة مشتركة نقاطا لتصادم المصالح بين الطرفين، كل طرف يسعى للانقضاض على الآخر. 6- تكالب الإخوان المسلمين على السلطة يعكس الشراهة والغرور السياسى، فمن مشاركة لا مغالبة، إلى السيطرة على مجلسى الشعب والشورى، ومن قبول للحكومة إلى إصرار على إقالتها وسحب الثقة وتشكيل حكومة إخوانية ثم السعى نحو المشاركة فى الانتخابات الرئاسية بمرشح أساسى، الشاطر، ومرشح احتياطى، د.محمد مرسى، الذى أصبح مرشحا أسياسيا بعد رفض الشاطر وشطبه بمعرفة اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية!! وقد كان لهذا التكالب أثره على ارتباك المشهد، ويبدو أنه لم تكن فى حسبان المجلس العسكرى هذه الشراهة على السلطة من الإخوان، الأمر الذى أكد بطريقة أو بأخرى عبثية المشهد السياسى، وكأن الصراع على السلطة بين طرفين، هما المجلس العسكرى والإخوان ومعهم السلفيون، بينما يتم تجاهل تام للقوى الثورية الحقيقية التى ما زالت صادمة، ولعل نجاحها فى مليونية 20 أبريل كآخر تجسيد لوجودها، يؤكد ذلك. والآن، المشهد أصبح مرتبكا والخروج منه يزداد صعوبة كل يوم لعدم توافر الإرادة السياسية الداعمة للثورة ومطالبها، فقد كان الهدف الأساسى للمجلس العسكرى، حينما استولى على السلطة فى 11 فبراير 2011، بقرار حسنى مبارك بعد تنحيه، هو ضمان استمرار نظام مبارك برموزه وسياساته وقواعد عمله، وأن كل نشاطه ينحصر فى ضبط الأمور فى مجرى تحقيق هذا الهدف، وأنه تعانق مع الإخوان المسلمين والسلفيين للحفاظ على استمرار المياه فى مجرى نظام مبارك، حتى لا يجف وينهار ويسقط النظام، وهو المرفوض تماما. وقد قبل الإخوان هذه المعادلة، وأبسط الأمور ارتباكهم فى إدارة البرلمان، ولا يضعون أجندة الثورة على مائدة البرلمان، واستمروا بلائحة مبارك وقيادات مبارك الفاسدة فى البرلمان، ولم يستطيعوا عزل مسؤول واحد -رغم مرور مئة يوم- من رموز مبارك، وحتى العزل السياسى جاء متأخرا ورد فعل لتهديد مصالحهم بعد ترشح عمر سليمان، وجاء ضيقا حتى لا يطول حلفاءهم فى البرلمان..... إلخ!! إن الخروج من المشهد العبثى المرتبك أصبح صعبا للغاية وما زال المربع الأول خاليا يحتاج إلى مَن يملؤه، وهو مربع الدستور أولا، عن طريق تشكيل لجنة تأسيسية «كفاءة + تمثيل واسع + 75٪ للتوافق كحد أدنى»، وتأجيل كل الأمور، حيث إن خيار الثورة ومسارها التغيير هو الخيار الأمثل، وما عداه سيسقط حتما، وليقرأ مَن يعرف القراءة تاريخ الثورات ضمن علم دراسة الثورات كأحد أفرع علم السياسة، وما زال الحوار متصلا والثورة مستمرة. الشكر واجب لأخى وصديقى إبراهيم عيسى، وصديقى إبراهيم منصور، على دعوتهما الكريمة للمشاركة ابتداء من هذا الأسبوع فى كتابة مقال رأى، أشرف بمشاركتهما وأسرة «التحرير»، فهم شركاء نضال مستمر ضد الاستبداد والفساد، وفقنا الله فى خدمة الوطن العزيز مصر.