تبقى الكلمة مصرية صميمة.. أتحدث عن «عشم» عنوان الفيلم الذى مثّل السينما المصرية فى مسابقة الفيلم الروائى الطويل بمهرجان «الدوحة ترايبكا».. العشم فى معناه الإيجابى هو طاقة أمل وأمنية تبدو بعيدة المنال لكنها ممكنة التحقق، وقد يصبح العشم فى لحظات تعبيرا ممزوجا بالمرارة عن خيبة الأمل. فى حالة من الألق تنسج المخرجة ماجى مورجان فيلمها لنرى من خلاله مصر، ليست قبل أو بعد الثورة، لكنها مصر التى تحيا بالأمل وتقاوم الإحباط وتعبد الله فى الجامع والكنيسة وتعيش الحياة تمنح بسخاء أو تمنع بإصرار.. فى لحظات مصيرية يتجسد العطاء، وفى أخرى تغلق أبواب القلوب. إننا أمام ستة أزواج، بعضهم فى طريقهم للزواج، الفيلم ينتقل من حكاية إلى أخرى وننتقل أيضا معه من حالة إلى أخرى. فى اللقطات الأولى لا تستطيع أن تدرك قانون الفيلم فلا توجد خطوط تواصل بين الأبطال مثل فيلم «سهر الليالى» مثلا لهانى خليفة الذى كان يجمع أبطاله بخيط واحد وهو الصداقة، ولكننا هذه المرة أمام لمحات وحالات مختلفة تكشف طبيعة المجتمع، وفى رؤية بانورامية تُطل على مصر بالعديد من طوائفها. محمد خان فى اللقطة الأولى يؤدى دور رجل يحب الزهور والسفر وتأتى وصيته لجارته أن تهتم فى غيابه بحياة الزهور، أما عشقه للسفر فهو وسيلته «للتهتهة» طالما لا يعرف اللغة أنها الأُمنية المستحيلة التى من الممكن أن يعيشها رجل أكمل العقد السابع من عمره ويجدد تعاقده مع الحياة بالعودة للطفولة. اللقطة الأخيرة صوت نجيب الريحانى وأنور وجدى فى الدويتو الشهير «عينى بترف» وهو يردد «حاسس بمصيبة جيالى يا لطيف يا لطيف» وبالطبع التحذير فى الأغنية لا يعنى الخوف من القادم، ولكنه الحب الذى كان يخشاه وفى نفس الوقت يتمناه. تتعدد الأنماط، من يريد أن يهاجر إلى أمريكا ومن يرى أن ماليزيا هى الهدف، هؤلاء هم المهزومون، لأنهم ابتعدوا عن الوطن، ولكن الآخرين الذين قاوموا هم من يتبقى فى الذاكرة. أتوقف أمام شخصيتين، الممرضة منى الشيمى تحب من طرف واحد الطبيب فى المستشفى، وأيضا الفتاة نجلاء يونس التى تأتى من القرية لتعمل فى دورة المياه فى مول ضخم وتصطدم للوهلة الأولى مع العاملة الأقدم التى تؤدى دورها «سهام عبد السلام» وتطلب منها وهى تخاطبها أن تطلق عليها «الريسة». الفتاة تخضع لها، فهى نموذج مصغر للشعب المقهور حتى ولو كان مكان الأحداث هو دورة المياه. تعمد الفيلم أن يبتعد عن الثورة المصرية حتى لا يتغير مؤشر الرؤية، فى حوار عابر عندما يقول «عشم» أحد أبطال الفيلم إنه لن يذهب إلى التحرير، ليس رفضا للثورة بالطبع، ولكن لأنه سعيد بأن وجد أخيرا عملا يتكسب منه، حيث أصبح عامل «أسانسير» فى المول بعد أن ظل ينتقل من بائع سريح إلى عامل دعاية للمحلات، ليشعر فى النهاية أنه عثر على نفسه، وبنظرته المحدودة التى لم تتجاوز حدوده لن يذهب إلى التحرير. وتأتى النهاية بهذه اللمحة السريعة التى تجمع بين عشم والممرضة، ويسألها عن اسمها فترسم «بسمة» بشفايفها وتخبره أن اسمها إبتسام. الفيلم قائم على تلقائية الحوار، وهو ما تجده مثلا فى أفلام المخرج إبراهيم بطوط، ولكن هناك نسبة ما من الانضباط فى فيلم ماجى مورجان. حيث يسبق فى العادة التصوير بروفات ليولد الحوار تلقائيا، لأن كل شخصية لها محددات وملامح ينبغى أن يعبر عنها الحوار. الأمر هنا ليس رهنا فقط بالديمقراطية التى تمنحها المخرجة لأبطال الفيلم، ولكن ينبغى أن يلتزم الممثلون بقواعد الحوار الدرامى. هناك فارق بين التلقائية والعشوائية، نحن نتابع شريطا سينمائيا تلقائيا يرفض تماما منهج العشوائية. ماجى كانت تختار الزاوية التى تحدد الرؤية والمعنى الذى تقتنصه لتصنع فيلمها، كان المونتاج هو أحد عناصر إبداع هذا الفيلم، حتى يُمسك بالقوام والبناء وهو ما تولاه أحمد عبد الله. هناك أسماء لممثلين خاصموا تماما قواعد التمثيل بمعناه الحرفى وحافظوا على تلقائيتهم مثل نجلاء يونس وسلمى سالم وسيف الأسوانى وأمينة خليل وشادى حبشى ومنى الخولى ومحمود اللوزى وسهام عبد السلام. الأمل فى السينما قادم وأراه يطرق الأبواب من خلال جيل من المخرجين، نشاهدهم من مهرجان إلى آخر كانت هالة لطفى قبل شهر فى أبو ظبى بفيلم «الخروج للنهار» وهذه المرة فى «الدوحة ترايبكا» التقينا ماجى مورجان فى «عشم».. إنها سينما مصرية قادمة تستحق العشم.