أمس، بدأت من كلام واقعى لكنه متشائم، كنت صارحت به صديقًا من فلسطين عندما سألنى عن رد فعل مصر الرسمى تجاه العدوان الإجرامى الحالى الذى يشنّه العدو على أهلنا فى غزة، وما إذا كان قابلًا للتطوّر والتصاعد، فجاوبته بأننى أرجّح أن القرارات التى زفّها لنا فضيلة الشيخ محمد مرسى، وأهمها استدعاء سفيره من تل أبيب، ليست هناك -للأسف- أسباب موضوعية تدعو إلى الظن بأنها ستنمو وتذهب إلى أبعد مما كان يفعله المخلوع أفندى فى مناسبات مماثلة.. ثم تدحرج الكلام حتى استقر على تخوم حقيقة مرة وكئيبة نكابدها الآن ويستطيع الأعمى رؤيتها بوضوح، مختصرها المفيد أنه لا شىء فى حاضرنا الراهن تغيّر واختلف عما كان قائمًا قبل ثورة رائعة دفعنا فيها ثمنًا غاليًا على أمل أن ينفتح باب تحقيق أحلامنا المشروعة فى الخلاص من البؤس والظلم والقهر والتخلّف، وهواننا على أنفسنا وعلى الناس. بيد أن الست «الجماعة» التى اختطفتنا «بفعل فاعل» سحقت بقسوة وجلافة أغلب وأهم الأحلام وجعلت كل شىء فى البلد يبدو مستجلبًا من الماضى الأليم ومعاد طبعه وإنتاجه بالتفصيل الممل فقط وفى بعض الأحيان يلبسونه ديكورًا شكليًّا وزواقًا لفظيًّا مختلفًا قليلًا، لكنه دائمًا زواق ردىء وديكور خايب مبتذل لا يجمّل قبحًا ولا يستر عورة. ومن الكلام عن حالتنا هذه التى لا تُرضى حبيبًا وإن كانت قطعًا تبهج العدو وتسرّه كثيرًا، انفتحت سيرة معضلة «الكتابة» ومكابدات كاتب مضطر إلى الإطلال على القرّاء المساكين يوميًّا.. واليوم أسأل: فى حال من هذا النوع كيف بالله عليك لكاتب «أى كاتب» مهما علت همته وتفوّقت مؤهلاته ولمعت أدواته، أن يحتفظ بقوة وقدرة دائمة على مقاومة النضوب والفشل والعجز عن أداء وظيفته؟! ليس غرض هذا السؤال والله العظيم، أى محاولة لاستدرار العطف أو تبرير الإخفاق، لكنه مجرد بوح علنى ليس جديدًا -للأسف- وإنما معاد ومكرر، وهو ما يضاعف الآن إحساسى بالألم والشعور بالذنب من أننى انزلقت بتلقائية وغير تخطيط مسبق إلى جعل معاناة الكتابة موضوعًا لسطور أمس واليوم بعدما أعيتنى الحيل وقادتنى تأملاتى فى أحوال وأوضاع الوطن الراهنة إلى اعتقاد قوى بأن واحدًا من أولاد الحرام فى هذه الدنيا ربما زَقّنا ودفعنا بالعافية لكى نسكن فى قلب مسرحية من مسرحيات العبث واللا معقول. يقول شارحو ومنظرو مسرح العبث إن مبدعيه حَمّلوا أنفسهم مهمة مواجهة وفضح عبثية ولا معقولية واقع الحياة الإنسانية وجدبها وزيفها عن طريق محاكاة تلك الحقيقة التى يرونها ونقلها إلى خشبة هكذا عارية من دون تجميل ولا كذب وباستخدام تناسق ومنطقية درامية تفتقدها حياة خلق الله خارج قاعة العرض، لذلك مثلًا، تعمّد الروائى والمسرحى الأيرلندى «صمويل بيكيت» أن يضع ويسجن جميع أبطال إحدى مسرحياته فى «براميل»، فلم تظهر من أجسادهم غير الرؤوس وظلوا يتبادلون فى ظلام شبه تام الصمت وكلامات بلا معنى ولا سياق حتى انتهت المسرحية! أما الكاتب الفرنسى المعجزة جان جينيه (هذا الرجل عاش قبل رحيله عن دنيانا سنينا طوال منخرطا فى صفوف المقاومة الفلسطينية) فقد تتبع فى مسرحيته «الخادمتان» وصوّر بإتقان شديد عملية هروب بطلتيه من حياة الانسحاق والعدم التى تعيشانها فى الحقيقة برواية أكاذيب مفضوحة ظلَّت كل واحدة منهما تلقيها على مسامع الأخرى، بينما كلتاهما تتقمصان -بالتبادل- دور سيدة البيت فى لعبة مكشوفة ولا نهائية، بقيتا تتباريان فيها حتى هبط الستار على المشهد الأخير من المسرحية. والفكرة الأساسية فى مسرح العبث هى الفوضى الشاملة، وأن لا شىء فى مكانه، وأن حياة البشر تمضى آلية ورتيبة فى حلقة مفرغة تجعل «الجمود والعدم» هما اليقين الدنيوى الوحيد. فالأعمار تفنى والأجيال تولد ثم تشب وتشيب قبل أن تخبو وتندفن، بينما الأحداث تتكرر والأنباء والأخبار تعيد إنتاج نفسها، مما يجعل الوجود الإنسانى عبارة عن فراغ يخرج من فراغ.. عذرًا، وصباح الخير بالليل.