ختمتُ أمس جَرْدَة السموم الدستورية التى يطبخونها لنا بنكتة، واليوم أبدأ ب«كذبة».. فلا بد أنك سمعت ألف مرة على الأقل إخوانّا الإخوان وتوابعهم السلفيين وهم ينفون وينكرون أنهم يسعون إلى إقامة دولة دينية يتلفع الحكام فيها برداء الدين الحنيف طمعا فى إسباغ قداسته على سياسات قد تكون صائبة أو فاشلة وكارثية، ويحصنون بعصمته وجلاله ممارسات ومواقف ربما بعضها أو كلها، انتهازى وغير أخلاقى و.. إجرامى أيضا. ولست أشك أنك حفظت الحجة التافهة التى يرددها أتباعهم كالببغاوات (نفسى أعرف مَن المؤذى الذى حفظهم إياها) ومختصرها أن الإسلام لا يعرف أصلا تلك الدولة الدينية التى شاعت فى أوروبا فى العصور الوسطى، عندما كانت الكنيسة هى التى تحكم وتستبد وتتحكم فى حياة الناس باسم الدين. وإمعانا فى التعالم والحزلقة والاستعراض فإن القائلين بهذه الحجة يزينونها فورا ودائما بتعبير أعجمى يتوهمونه من مقتضيات الشياكة والأناقة اللغوية ويعتبرونه كفيلا وحده بإنهاء الموضوع وحسمه تماما، إذ تجد الأخ المتحدث يعتدل فجأة فى جلسته وينتفخ وهو يقول بفخر: ليس فى الإسلام «حكما ثيوقراطيا» إلهيا كما كان فى أوروبا.. وهذه طبعا حقيقة، فالإسلام فعلا لا يقول ولا يقر الحكم باسم الدين، لكن المسيحية أيضا لم تأمر بالحكم الدينى، وإنما الذى حدث أن مسيحيين (وليس الكتاب المقدس) هم الذين أسسوا واخترعوا دولة الكنيسة، تماما كما أن نفرًا من المسلمين يخترعون الآن اختراعا مشابها ويحاولون فرضه على خلق الله بالمراوغة والمخاتلة واللعب بالألفاظ والصياغات!! هذا اللعب الردىء يستطيع أى قارئ لبنود مشروع دستورهم الهباب أن يلاحظه ويلتقط أدلته ويتلمس مظاهره بسهولة شديدة، فهناك مثلا تلك الفقرة التى حشرت حشرا فى نهاية المادة رقم «4» والتى تجعل من ما يسمى «هيئة كبار العلماء» فى الأزهر الشريف سلطة مرجعية تقيد سلطة التشريع المنتخبة (البرلمان) فى كل شأن يتعلق بتنفيذ وإعمال ما جاء فى البند الدستورى الثانى من أن «مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع». غير أن هذه الفقرة ليست الدليل الوحيد، فهناك المادة «221» وهى أيضا من قبيل التزيد ومحاولة خلق ذرائع وفتح ثغرات وأبواب تمر منها مكونات بناء الدولة الدينية، كما أن المادة رقم «6» تسمح، أو بالأحرى «تدستر» قيام أحزاب سياسية على أساس دينى، فهى أسقطت الحظر الذى ظل قائما فى كل التراث الدستورى المصرى على الأحزاب التى تتمسح فى الدين وتستخدمه فى معارك السياسة، وتوسلت صياغة هذه المادة بلؤم عبيط فاكتفت ب«عدم جواز قيام أحزاب على أساس التفرقة بين المواطنين بسبب الجنس أو الأصل أو الدين»!! هذا بالإضافة إلى المادة «67» المشهورة والتى قيل إنها شطبت مؤخرا (لا يمكن تصديق هذه الأقاويل لأن كثيرًا منها كذب) وهى كانت تقيد حق المرأة فى المساواة والتمتع بكامل كينونتها الإنسانية بقيد عجيب هو «أحكام الشريعة» وكأن شرعة الدين الحنيف تتناقض مع هذا الحق. عموما، يبدو المشروع الدستورى المشموم يؤسس ليس لدولة دينية فحسب، وإنما يختلق ويبنى كذلك دعائم «دولة طوائف» منفصلة ومشتتة يحتكم مواطنوها إلى شرائع ومذاهب شتى ولا يكاد ينتظمهم نسق قانونى وطنى موحد، وهو أمر يتجلى ويتجسد على نحو كارثى وغير مسبوق فى البند رقم «3» حيث جرى تقسيم المصريين وتوزيعهم على ملل ونحل مختلفة، ثم منح كل واحد منهم رخصة بمقتضاها يلوذ ويتمترس داخل قوقعة دينه وأحكام شريعته.. ولا حول ولا قوة إلا بالله. و.. أكمل باقى جردة البلاوى والسموم الدستورية بعد غد، إذا أحيانا المولى تعالى.