نعم، أكتب هذه السطور بينما لا يفوق حزنى وإحباطى إلا رغبة عارمة جامحة أن أعتذر للنبى محمد (صلى الله عليه وسلم) ولكل القيم الروحية السامية والمبادئ الإنسانية النبيلة والأخلاق الراقية العظيمة التى جاهد لكى يبدد بها الظلم والظلام والجهالة والجلافة.. أود أن يتقبل نبى الرحمة اعتذار الفقير لله، ليس عن محاولة بائسة ومستحيلة قامت بها حفنة مجرمين توافه مغمورين ومشبوهين للإساءة إلى سيرته العطرة النقية، وإنما عن فيض إساءات وحماقات أعظم فحشًا وأشد ضررًا يقترفها يوميًا سفهاء جهلاء مشوهون روحيًّا وأخلاقيًّا يتنطعون على أمته وينسبون ارتكاباتهم وجرائمهم إلى رسالته السمحة والدين الحنيف الذى أتى به هدى للناس. أريد أن أعتذر كذلك للفداء والبطولة والتحضر والشرف الإنسانى الرفيع الذى يلوثه حاليا همجيون قساة طارت عقولهم وقدت قلوبهم من حجر.. أعتذر لفلسطين السليبة والقدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة وسائر قضيانا العادلة. أعتذر لقافلة النبلاء الذين لا يعرفون لغتنا ولا كابدوا مُرّ العيش فى أوطاننا، ومع ذلك ناضلوا ببسالة حتى استشهدوا دفاعًا عن حقنا فى الحياة.. أعتذر لعروس السماء «راشيل كورى» التى سَحقت جرافاتُ العدو جسدها الغض وهى واقفة صامدة أمام بيت من بيوت أهلنا فى غزة تريد أن تحميه من الهدم، كما أن الاعتذار واجب للشهيدة «مارى رينيه»، وعبرها أعتذر للإنسانية جمعاء.. وأترك ما تبقى من مساحة لسطور قديمة كتبتها فى رثاء هذه السيدة التى ماتت من أجلنا: «.. أنت لا تعرف من هى (مارى رينيه) ولا أنا أعرفها ولا أظن أن أحدًا خارج دائرة أهلها وأصدقائها سبق له أن سمع بهذا الاسم، فالسيدة مارى لم تكن من هذا النوع الذى تلاحقه الأخبار ويسكب عليه الإعلام أضواء الشهرة والصيت، لقد أتت إلى هذه الدنيا وعاشت فيها مثل مئات ملايين البشر العاديين، ولما حان ميعاد الرحيل رحلت وغادرت دنيانا فى صمت جليل ولكن باهتمام أقل، حتى مما يحظى به العاديون أمثالها.. لماذا؟ لأن (مارى) ماتت بعيدًا عن وطنها وصعدت روحها الطاهرة إلى بارئها، وهى تعانى برودة الغربة فى وطننا نحن. عزيزى.. كل المتاح لى من معلومات عن (مارى رينيه) أنها مواطنة فرنسية لم تُكمل السبعين ربيعًا بعد، أتت من بلادها البعيدة وعبَرت البحر إلينا، ليس لكى تتمتع بشمس بلادنا وتتفسح وتتسكع فى شوارعنا وبين آثار أجدادنا، وإنما لتمر فقط تمر من عندنا إلى أهلنا المحاصرين فى غزة السجينة وتشارك مئات المخلصين أمثالها للقيم الإنسانية العليا تضامنهم وإعلانهم أن فى هذا العالم بشرًا نبلاء لم تمُت ضمائرهم ولم تتبلد مشاعرهم ولم يعودوا يطيقون الصمت والسكوت على جريمة بشعة يكابدها شعب أعزل يقاوم بالأجساد والصدور العارية، لكى يستعيد وطنه المسروق من براثن كيان عنصرى لقيط ومسلح حتى الأسنان بآلة قتل وتدمير وترويع جهنمية يزيد من بأسها وفداحتها تواطؤ وتخاذل الإخوة قبل الغرباء. لا أستطيع أن أُخمن كيف دبرت (مارى) ثمن بطاقة الطيران وباقى مصاريف السفر إلى بلادنا.. ربما اقتطعت من معاشها التقاعدى البسيط، ولعلها قبل أن تسافر هاتفت أخًا أو أختًا، ابنة أو ابنًا أو حفيدًا، وأبلغت أىًّا منهم أنها لن تكون بينهم فى احتفالات أعياد هذا العام (أعياد الميلاد) لأنها ذاهبة إلى مصر، ومنها إلى أحضان أصدقاء فقراء وبسطاء لا تعرفهم، يعيشون وسط مظاهر البؤس والخراب فى بقعة على ظهر هذا الكوكب تدعى (قطاع غزة). من تكون (غزة) هذه يا جدتى؟! ولماذا تذهبين إلى هناك؟ ولماذا من مصر؟! هذا السؤال أفترض أن (مارى) سمعته من حفيدها (لو عندها أحفاد)، ولست متأكدًا أن الصغير فهم إجابتها التى ربما شرحت فيها بإيجاز قصة وطن اسمه فلسطين، وكيف سُرق هذا الوطن من شعبه بواسطة نازيين جدد، أقاموا على الأرض والبيوت المسروقة كيانًا عنصريًّا يُدعى (إسرائيل).. أما لماذا يا صغيرى أذهب إلى هناك عبر مصر؟ فلأن هذا البلد العظيم هو جار شقيق لفلسطين، ويوجد على حدوده المعبر الوحيد المتاح للدخول إلى المحاصرين فى غزة. لكن الموت الذى داهم (مارى) بعدما لم يحتمل قلبها الواهن ما جرى لها ولزملائها المتضامنين فى شوارع القاهرة، أنقذها وأعفاها من شرح صعب ومؤلم كان سيتعين عليها أن تقدمه لحفيدها لو كانت عادت إليه وعرف أن المهمة النبيلة التى سافرت جدته واغتربت فى العيد من أجلها لم تتم!! أيتها الشهيدة النبيلة (مارى)، يا أختنا فى الإنسانية، أرجوكى اقبلى اعتذارنا عن موتكِ البارد الغريب فى ديارنا، فنحن كما رأيتِ نموت أيضا غرباء فى أوطاننا، بالبؤس أحيانا وبالعار أحيانا أخرى».