كان اليهود، «أهل الكتاب» وأهل التدوين، يعيّرون أبناء عمومتهم من العرب بأنهم أميون، لا يفقهون الكتاب، ولا يعرفون النبوة (القيادة الملهمة بالحكمة الإلهية). بل وكانوا يعيّرونهم بأنهم أبناء إسماعيل، ابن الجارية، بينما اليهود أبناء إسحاق، ابن الحرة. ولك أن تتخيلى قسوة ومهانة ادّعاء كهذا بالنسبة إلى العرب، ولك أن تتخيلى -من ثم- خطورة وصعوبة الطرح الذى طرحه النبى، العربى، الأمى (المشمول بتعيير اليهود لقومه). لقد فكر فأدرك أن اليهود مُحِقّون فى النقطة الأولى. فالعرب فعلا أميون، وليسوا أهل كتاب(ة). والحضارة كتاب(ة). لقد رأى كيف رفعهم الكتاب(ة) إلى تقديم نموذج يُحتذى به، بعد أن كانوا كالعرب وقت البعثة وأسوأ، مجرد قبائل لا يلتفت إليها أحد. ومن ثم قال -يا لشجاعته!- لقومه: لست امتدادا لكم، أنا امتداد لأهل الكتاب(ة). وجاءت الآيات المكية تؤكّد هذا المعنى. بل إنه، حرصا على هذا الوصال، لم يُثِر معهم مواضيع خلافية. المعلومة الشائعة بين المسلمين اليوم بأن الذبيح من ابنَى إبراهيم هو إسماعيل، والمخالفة لأصل القصة المكتوب فى كتاب اليهود المقدس، لم تأتِ على لسان النبى. الجدل والانتصار لرأى دون آخر هنا لا يهم. الحقيقة الثابتة أن أقرب الصحابة إلى النبى، وإلى نسب النبى -علِىّ بن أبى طالب وعمه العباس- قالا إن الذبيح إسحاق. ومثلهما عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود. أعود فأؤكد أن الغرض هنا ليس انتصارا لرأى، فمن الصحابة من قال إن الذبيح إسماعيل، فاعتقدى بما شئت، ولكن -كالعادة- غايتى أن أؤكد لك أن ما تظنينه محسوم، ليس محسوما كما تظنين. ولو أراد النبى حسمه لفعل، ولو أراد القرآن لفعل، لكن النبى كان حريصا على الوصال مع أهل الكتاب(ة). ثم إنه سبحان الذى أسرى بعبده ليلا، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله. فكِّرى فى معنى الرحلة! كأن رب محمد العربى يرسم برحلته خطا من البيت الذى بناه إسماعيل، إلى بيت أنبياء بنى إسرائيل (يعقوب بن إسحق) المقدس. هل تدركين المعنى الثقافى؟! إنه الذهاب إلى آخر مدى فى الانفتاح على الآخر، المتقدم، حتى لو كان الآخر الذى يؤذيك بالتعيير. إن لم تكونى أدركت بعد، فلا تزال أمامك فرصة أخيرة. وإلا فسيبك منى واسمعى شيوخ الأميين فى التليفزيونات والمساجد. لقد فُرِضت الصلاة، عماد الدين، فى رحلة التعميد تلك. مَن مِن الأنبياء نصح النبى محمدا بأن يخفض عدد الصلوات من خمسين إلى خمس؟! نعم، إنه موسى، نبى اليهود، لا غيره. طيب. منذ فُرضت الصلاة، وحتى 16 شهرا بعد الهجرة إلى المدينة، كان المسلمون يصلُّون ناحية بيت المقدس، لا ناحية الكعبة، قبلة العرب. هل تدركين معنى هذا؟! هل حاولتِ أن تسقطيه على زماننا وتجدى له فعلا شبيها؟! هل تسمعين الأميين القابضين على أميتهم وجهلهم وهم يُكَفِّرون ويُفسِّقون ويتهمون بالخيانة والتبعية كل من ينظر إلى ما وصلت إليه البشرية، ويبحث، ويحاول أن يأتى لأمته بالأحسن، معارف، ونظما، وأساليب إدارة مجتمعات؟! إن هذا بالضبط ما فعله النبى الأمى الحصيف. الذى أراد أن يتعلم، لكى يعلّم الأميين الكتاب والحكمة. لقد ظل يمدّ حبال الوصال مع أهل الكتاب(ة) حتى فقد فى الوصال الأمل. حكيت لك دا كله يا صديقتى من ساعة ما ابتديت سلسلة المقالات الأخيرة دى عن الأميين، علشان الجملة اللى جاية: لقد نقل موسى/محمد، والكتاب المقدس/القرآن، أمته من الأمية إلى الكتابية. من البداوة، إلى الحضارة. لكنه حين نقلهم، فى بداية الطريق، لم يكن لديه من العلم إلا معارف زمنه، معارف مَن حوله. ف«لقّنهم» إياها، لأن التلقين هو الوسيلة الوحيدة لتعليم الأمى. كل ذلك على أساس أنهم حين يتعلمون سيصبحون قادرين على اكتساب ما جَدَّ من معارف، ولكن على طريقة المتعلمين، أى: سيراكمون المعرفة. لقد كان النبى كرجل يقول لأبنائه (الله يرحمك يا جدى) إنه لم يتعلم، إنما يصر على أن يتعلم كل ابنة وابن من أبنائه وبناته لحد أعلى تعليم. لكن، هل فهموا غايته؟! بكرة هنشوف ماذا فعل أبناؤه (لأ، مش أبناء جدى يا هبلة).