نجيب محفوظ دخل الجامعة فى عز ولادة تيارات جديدة على مصر.«الإخوان المسلمين».. والشيوعيون أكبر حركتين فى التاريخ السياسى والفكرى. ظهورهما كان فى وقت قريب (أول تنظيم شيوعى كان فى الإسكندرية بين 1920 و1924 و«الإخوان» تأسست فى الإسماعيلية عام 1924)، تعبيرا عن تيار يتمرد على النخبة السياسية المستقرة فى القاهرة بحلولها وطريقتها التى وصلت إلى الذروة مع سعد زغلول صاحب الموقف الوسط بين الأفكار القادمة من الغرب والفكر المستمد من الدين. ورغم أن كلاًّ من الإخوان والشيوعية له تاريخ خاص فى العلاقة مع المجتمع من ناحية والسلطة فإنهما يتشابهان فى النظر إليهما، باعتبارهما أماكن التطرف فى مجتمع يعشق المنطقة الوسط مثل المجتمع المصرى. وهما أيضا مستوردان. الشيوعية كانت أسهل فى ترسيخ فكرة الاستيراد الفكرى، فهى قادمة على جناح الألمانى كارل ماركس وبقوة اندفاع النموذج السوفييتى. كما أنها اختصرت فى شعارات تجعل رفضها عملية منطقية من «الدين أفيون الشعوب» وحتى «ديكتاتورية الطبقة العاملة»، وهى أفكار «محرمة» أوتوماتيكيا فى مجتمع يعتمد فى حياته على الزراعة ذات المواسم الثابتة والدورات التى لا تتغير. إيقاع الحركة بين كل من الإخوان والشيوعية والمجتمع والدولة فى مصر كان مختلفا بالطبع. الإخوان كانوا الأقرب إلى الاندماج. كما أن الشيوعية تضاعفت «غربتها» فى لحظات الهزيمة السياسية والعسكرية حين تسربت أحلام الدولة العصرية القوية فى أحماض الديكتاتورية المحلية والمؤامرة الخارجية، ولم يعد أمام الناس إلا البحث عن مظلة صلبة والتى لم تكن سوى الدين. لم تعد مطالب الاستقلال سياسية فقط كما كانت فى عصر سعد زغلول. بدت هناك رغبة فى الإنصات إلى التغيرات التى أعقبت الحرب العالمية الأولى والأسئلة عن المشروع الفكرى لدولة الاستقلال.. كيف سيكون شكلها ونظامها؟ إلى أين ستوجه حركتها؟! هكذا بدأت بشائر ثقافة جديدة تتكون وتخرج من كونها علوم الدين فقط. لم يعد المثقف هو عالم الدين أو الأزهرى المتنور. ولد مثقف جديد.. بداياته عنيفة تصدمها أفكار داروين عن التطور، وفرويد عن النفس البشرية والأحلام والهواجس.. وكلها أفكار روجت على يد سلامة موسى الذى وضع اشتراكيته فى معادلة مع العلم لتضاف إلى مكونات وعى جديد يفرز أدباء مثل نجيب محفوظ. هكذا «انتصرت» ثقافة الأفندية: صوت مصر «الجديد» بعيدا عن ثقافة الأتراك والمماليك وبعيدا أيضا عن الطبقات الملتفة حول المحتل. وهكذا صعدت أم كلثوم. وكما يقول فتحى غانم فى كتابه «الفن فى حياتنا»: «كان المغنى فى مصر يثير الناس ويطربهم بشىء اسمه (الهنك والرنك) وهى الميوعة والطراوة فى الغناء، ابتكرها محمد عثمان منذ أيام الخديو إسماعيل وحفلاته الباذخة. إذ يقضى المغنى عشر ساعات متتالية وهو يتلاعب بصوته مرددا جملة أو شطرا من قصيدة. وكانت منيرة المهدية تثير حواس المستمعين ببحة فى صوتها فيها طابع جنسى يشبه بحة الأغانى التى يغنيها الأمريكيون اليوم فى أغانيهم الراقصة». أما أم كلثوم فقد «غنت مع الفلاحين على طبيعتها وسجيتها، غنت بلا قواعد وبلا هنك أو رنك وبلا بحة.. أو تلاعب.. أطلقت صوتها معبرا عما تحس به، بلا خضوع لتقاليد أو مزاج.. أطلقت صوتها وكأنها تغنى لنفسها.. وإذا بالفلاحين يطربون لسماعها ويجدون فيها تعبيرا عن الانطلاق الذى يتمنونه فى حياتهم». وهنا يجب أن نسجل لأم كلثوم أنها «استحقت منذ ذلك الوقت التفضيل الذى حباها به الفلاحون على غيرها من الأصوات التى كانوا يسمعونها». كانت أم كلثوم مغنية موال الفلاحين، «لها صوت طبيعى، ينطق الكلمات السليمة، بلا عوج ولا التواء، وبعيدا تماما عن الأصوات الجنسية، فضلا عن خلوه من صنعة التكلف فى التلاعب بالصوت وترديد الكلمات بصرف النظر عن معناها». ومن الغريب أن تختار هذه الفلاحة المغنية هذه الطريقة فى الغناء وتتمسك بها بتأييد من جماهير المستمعين الفقراء، ولا تحاول أن تتعلم طرق الغناء الأخرى السائدة فى ذلك العصر، متفقة فى ذلك مع الشيخ درويش وفى نفس الوقت دون أن تلقاه أو تتعلم على يديه الموسيقى، وهو الذى كفر أيضا بفن المحترفين، وبدأ ينادى بأن طبيعة المصريين فى الغناء أقوى من فنهم. ولا أريد أن أتهم بالمبالغة إذا قلت إن ألحان سيد درويش الثائرة على الصنعة القديمة والمتأثرة بالطبيعة والسجية المصرية، وكذلك صوت أم كلثوم وطريقتها فى الأداء الطبيعى، كانا يرمزان إلى رغبة حقيقية كامنة فى النفوس للانطلاق والتجرد من القيود السياسية والاقتصادية التى تضغط عليهم