مصر، كانت ولم تزل، أمام مفترق طرق. الثورة، ككل فعل جماعى غير منضبط، يمكن أن تأخذنا فى أى اتجاه كأى كحجر ضخم ينزل من قمة جبل عال، يمكن لأى حجر صغير أن يوجهه فى أى وجهة كانت. ولهذا يكون من المهم وبسرعة أن يتم إنشاء مؤسسات الدولة الجديدة لوضع بعض القيود على حرية الحركة العشوائية للفعل الثورى. مخاوفنا من «مصر التى لا نريد» أكثر من اتفاقنا على «مصر التى نريد». ومن هنا كانت أهمية وجود مؤسسات منتخبة لتحمى مصر من المصائر التى لا نريد. وكانت هذه القرارات الأخيرة للرئيس محاولة لإزالة احتمالين من الاحتمالات الأسوأ التى كان من الممكن الانجراف إليها. أولا، القرارات الأخيرة جاءت لتحمى مصر لحد بعيد من النموذج «الباكستانى»، حيث الطبقة السياسية المدنية شديد الانقسام أيديولوجياً والجيش هو الحاكم الفعلى سواء من خلال انقلابات عسكرية أو من خلال «التحكم» فى المشهد خلف رؤساء ضعفاء. الجيش كان حاضراً بقوة، مثلما كان الحال فى مصر، منذ أولى لحظات الاستقلال، ثم الحرب، ثم مع دستور 1956 فى باكستان والذى أفضى إلى الجنرال إسكندر ميرزا أول من تقلد منصب رئيس الجمهورية، وبدأت باكستان فى تلك الفترة بإنشاء العديد من المشاريع التنموية الضخمة. ولكن فى خلال عامين، وبدعم من الولاياتالمتحدة حدث أول انقلاب عسكرى بقيادة الجنرال أيوب خان الذى يصفه البعض بأنه حاول تطبيق أفكار أتاتورك فى باكستان. ومنذ ذلك الحين لم تنجُ باكستان من تدخلات القيادات العسكرية السافرة ليخرج رئيس ويحل محله قائد أركان جيشه إما بلا انتخابات أو بانتخابات يعلم القاصى والدانى أنها مزورة وبفجاجة استثنائية. وحتى هذه اللحظة تبدو الطبقة السياسية المدنية، وكأنها تتحرك فى ربع المساحة السياسية المسموح لها أن تتحرك فيها من قبل الجيش الذى يدافع عن حدود الدولة ضد أعدائها الخارجيين ويدافع عن بنيان الدولة ضد أعدائها الداخليين. وأسوأ ما فى هذا النموذج أن الجيش «يسلم» السلطة لكنه «لا يساعد» فى بناء مؤسسات الدولة المدنية بما يعنى أنه «سيعود» وهو ما حدث مع الجنرال ضياء الحق بعد فترة حكم قصيرة لذو الفقار على بوتو، وما حدث مع الجنرال برويز مشرف بعد نواز شريف. إذن التسليم بلا مساعدة من قبل العسكر فى بناء نظام ديمقراطى حقيقى يكون خدعة استراتيجية. ثانيا، القرارات الأخيرة للرئيس مرسى تقلل كثيراً من احتمال سير مصر فى اتجاه نموذج «الجزائر» فى عام 1990 حيث تكون المفاضلة بين «الانتخابات النزيهة» أو «الأمن القومى»، ومن هنا فهمنا الكلام العام الذى خرج منسوباً إلى بعض قيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة من أن «مدنية» الدولة هى قضية أمن قومى. وما تعنى هذه العبارة إلا أن استقرار مصر الداخلى من ناحية وسياستها الخارجية من ناحية أخرى يرتبطان بأن من يحكم مصر لا يحمل مؤسسات الدولة المصرية، بما فيها القوات المسلحة، أعباء ومسئوليات غير مصرية لا باسم «القومية العربية» ولا باسم «الأمة الإسلامية». وكان هناك توافق بين القوى السياسية المقربة من المجلس العسكرى على أن الضامن الوحيد ل«مدنية الدولة» ومن ثم «مدنية» قراراتها السياسية و«قُطريتها» هو «المجلس الأعلى للقوات المسلحة». ومن هنا تجد ذلك التباين فى المواقف بين قوى (سواء إسلامية أو غير إسلامية) لا تريد لقيادات القوات المسلحة أن يلعبوا أى دور سياسى وأن يكتفوا بما قدموا، ومن يخشى أن يكتب الدستور فى غياب «المجلس الأعلى» لأنه سيكون الضامن ضد تحول قرار الأغلبية البرلمانية إلى «الإرادة العامة» للمجتمع، وتكون نخبة 2012 صورة «إسلامية» من نخبة 1952 التى قررت أن تغير مفاصل الدولة. وهناك تخوف حقيقى عند البعض من أن الأغلبية الإسلامية فى البرلمان ستسعى لاحقاً لأن تتحكم فى الجهاز العصبى للأمن القومى المصرى عبر مؤسساته التى كانوا ممنوعين منها من قبل: الجيش، المخابرات، الداخلية. لذا عند هؤلاء كان وجود المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتشكيله السابق ضماناً لهم ألا تحدث «أسلمة» لمؤسسات الأمن القومى التى لا ينبغى أن تتغير عقيدتها الأمنية مع تغير من يحكم البلاد. ولكن قدرة المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى تشكيله الجديد على القيام بهذا الدور أصبح شبه مستحيل لأن القرارات الأخيرة تعنى أن الجهات المنتخبة ستبسط سيطرتها على الجهات غير المنتخبة بما فيها القوات المسلحة. وهو ما يعنى أن مصر ابتعدت خطوات عن المسار الباكستانى (حيث الجيش يتحكم والرئيس يحكم)، أو الجزائرى (حيث الرئيس يحكم والجيش يخلعه)، ولكن هناك من يخاف أننا بهذا نكون اقتربنا من النموذجين الإيرانى أو الحمساوى. ثالثا، هناك من يخشى أن تكون القرارات الأخيرة مقدمة لأن تحتذى مصر النموذج «الإيرانى» المبنى على وجود مؤسسات دينية توازى مؤسسات الدولة السياسية لضمان «إسلامية» القرارات والتشريعات. ومن هنا فهناك تحسب من أن نجد فى دستورنا القادم مثلاً حديثاً عن «مرشد عام للدولة» ككيان موازٍ لرئيس الجمهورية أو أن نجد مجلساً أو هيئة شبيهة بمجلس «تشخيص مصلحة النظام» الذى هو الهيئة الاستشارية العليا للمرشد العام والذى يقوم بتشكيله المرشد «لتشخيص المصلحة فى الحالات التى يرى مجلس صيانة الدستور الإيرانى أن قرار مجلس الشورى الإسلامى يخالف موازين الشريعة والدستور فى حين لا يوافق على ذلك مجلس الشورى الإسلامى الإيرانى». وكأنه حكم بين البرلمان والمحكمة الدستورية، وهو عادة ما يحكم لصالح المحكمة الدستورية (أى مجلس صيانة الدستور) الأكثر محافظة دينياً. وبدون الدخول فى تفصيلات، لا أعتقد أن أياً من القوى السياسية يذهب فى خياله أنه سيستطيع أن يتبنى مثل هذا الطرح الآن على الأقل. رابعا، هناك كذلك من يتخوف أن تؤدى القرارات الرئاسية إلى استنساخ نموذج «حماس لاند» فى غزة، حيث تحولت الأغلبية البرلمانية فى انتخابات يناير 2006 إلى الحكومة الفعلية فتم منع الأكسجين السياسى عنها بتوافق إقليمى دولى بمنطق أن «نجاح الأعداء فى أى مكان سيعنى انتقال العدوى إلى أماكن أخرى» وفقاً للنظرية الشهيرة المعروفة بسياسة الاحتواء، كما عرفها جورج كينين منذ الأربعينيات للإشارة إلى دور المجتمع الدولى والبيئة الإقليمية فى أن تحمى نفسها من أعدائها عبر الضغط المتواصل والعقوبات المتزايدة. وقد لعبت مصر دوراً مهماً فى منع الأكسجين عن حماس خلال حكم مبارك، وهناك الآن من يستخدم ضدنا نفس السلاح بعد أن أصبحنا نحن «الأعداء». السؤال: هل هذه القرارات ستثير دولاً محيطة بنا من أجل منع المساعدات عن مصر والضغط عليها فى ظل مجتمع يتزايد سكانياً بمعدل أعلى من أدائه الاقتصاد؛ جزء من تصور ما أن مصر ينبغى أن تكون «فيل المنطقة المريض» تعيش «مكفية على وشها، يستمتع فيها أهلها بفقرها؟» وإن كان فى هذا التحليل شىء من الصحة: هل هذا عقاب على الثورة أم هذا عقاب على انتخاب الإسلاميين أم هذا عقاب أسبابه مركبة؟ أياً ما كان الأمر، فإن الثورة تأخذ اتجاهاً جديداً بطلاق لا رجعة فيه بين شرعية ثورة 23 يوليو التى جسدها المجلس العسكرى بتشكيله القديم وثورة 25 يناير التى جسدتها شرعية الانتخابات الرئاسية. وإن كنا ابتعدنا خطوات عن «عسكرتاية» النظام الباكستانى، و«انقلابية» التجربة الجزائرية، فإن الدستور الجديد مطالب بأن يجنب البلاد «كاهنوت» النظام الإيرانى، وعلى الرئيس ومعه فريق السياسة الخارجية المصرية أن يجنبوا البلاد «استعدائية» التجربة الحمساوية. إن اختيار الفريق السيسى واللواء العصار تحديداً يضمن لحد بعيد انتقالاً سلساً من القيادة القديمة إلى القيادة الجديدة فى القوات المسلحة، كما أن اختيار المستشار محمود مكى نائباً للرئيس يرسل رسالة إيجابية بحرص الرئيس على الإبقاء على الوجه المدنى (غير العسكرى وغير الدينى) لمؤسسة الرئاسة. التفاؤل يحدو كثيرين أن تكون الثورة، بدلاً من أن تأكل أبناءها كما شاع فى الأدبيات الغربية فى أعقاب الثورة الفرنسية، أنها ستعيد الاعتبار لأبنائها بأن تستوعب أن الوطن أوسع كثيراً من أى فصيل وأن الجميع مرحب به فى ساحة العمل السياسى لنقدم نموذجاً خاصاً بنا يكون أكثر ديمقراطية واحتراماً للحقوق والحريات من النماذج الأربعة السابقة.