خمس مباريات كانت درسًا فى الإنهاك والملل.. والنهائى يجسد أسلوب الإسبان النقى الفريد. ●● لو سألت خبيرا كرويا أو «خبيرا استراتيجيا» قبل مباراة إسبانيا وإيطاليا وخاصة بعد إطاحة الفريق الإيطالى بالألمان: من سيفوز فى المباراة النهائية؟ لا يمكن أن يتوقع هذا الخبير ولو كان يدعى ديل بوسكى أنه سيفوز بأربعة أهداف للاشىء، وأنه سوف يستطيع السيطرة على سوبر بالوتيلى، وأنه سوف يضع بيرلو فى الأسر.. بجانب أن كل الخبراء كانوا يرون الفريق الإسبانى قويا لكنه ممل، يلعب دائما بهدف الاستحواذ وامتلاك الكرة، ولا يسعى إلى الكثير من الأهداف. ولكن بعد المباراة النهائية كان العالم مبهورا ومعجبا ومستسلما للتفوق الإسبانى، لدرجة أن الجارديان البريطانية خرجت بعنوان عريض يقول: «أعظم فريق فى التاريخ على الإطلاق».. ففى المباراة النهائية قدم الإسبان قطعة من الفن والإبداع والتفرد.. وكانت أهدافهم الأربعة مباشرة وسريعة ومفاجئة.. والهدفان الأول والثانى تحديدا اختصرا حق التتويج على قمة الكرة الأوروبية.. الهدفان جسدا إسلوب تيكى تاكا النقى الخالص. الناس لا تتذكر تفاصيل فوز البرازيل بكأس العالم 1970. لكن أحدا لا ينسى هدف كارلوس ألبرتو الذى اختصر عبقرية الكرة البرازيلية.. ولن ينسى أحد هدفى سيلفا وألبا. ●● تفوق الفريق فى وسط الميدان. وفاز بكل أشكال الصراع مع نظيره الإيطالى. وتلك لعبتهم الدائمة، لكنهم فى هذه المباراة كانوا أسرع فى التمرير وفى الجرى وفى التصرف وفى الاختراق من خلف المدافعين الإيطاليين. لم يكن إيقاف العدائين الإسبان سهلا، بل لم يكن ممكنا. هدف سيلفا جاء بعد 14 تمريرة وبعد 36 ثانية من حيازة الكرة. وهدف ألبا جاء بعد 4 تمريرات وبعد 13 ثانية من حيازة الكرة. بذلك يكون منتخب إسبانيا صنع فى تلك المباراة هذا التوازن المدهش بين الامتلاك والاختراق. ●● ريكاردو مونتوليفو الذى حطم إيقاع الألمان فى قبل النهائى لم يقترب من تشافى ألونسو وسيرجيو بوسكيتس. فالضغط الإيطالى على الإسبان كان أقل فى المباراة بينما حين جرت المواجهة بين البرتغال وإسبانيا كان ضغط البرتغاليين فى وسط الملعب أفضل. وكان الصراع هنا بين ثلاثة ضد ثلاثة وكل لاعب من الثلاثى البرتغالى يصاحب أحد مفاتيح اللعب الإسبانية كما يصاحب الظل الإنسان. لكن فى المواجهة الإيطالية مع إسبانيا كان الموقف يتحول إلى صراع بين أربعة إسبان ضد ثلاثة طليان، أو خمسة إسبان ضد أربعة طليان، وكان كل لاعب إيطالى لا يدرى ماذا يفعل حين يفقد الفريق الكرة.. والواقع أن الأصل فى الصراع العام فى كرة القدم بصفة عامة أن كل فريق يسعى لتحقيق المعادلة الصعبة فى كل خط وهى: «+ 1..» أى خط دفاع يزيد بلاعب على عدد المهاجمين المنافسين، وخط وسط يزيد بلاعب عن الوسط المنافس، وعدد مهاجمين يزيد بلاعب عن عدد مدافعى الخصم. هذا أصل الصراع فى اللعبة.. ●● إنيستا بدأ باللعب فى الجهة اليمين وسيلفا بدأ فى الجهة اليسرى، وهذا على غير العادة. والعادة لا تهم.. فالمهم التحرك والتمركز. وهما فى حالة فقدان الكرة وبدء الدفاع كان يشكلان مع زافى وفابريجاس حائط الصد الأول. ثم فى لحظة امتلاك الكرة ينطلقون فى اتجاهات مختلفة ومربكة بتعزيز من تشابى ألونسو، وألبا أو اربيولا ليكون الهجوم بخمسة أو ستة لاعبين. ●● إذن هذا الانتصار الكبير حققه الإسبان بستة لاعبين فى الوسط، وأربعة لاعبين مدافعين.. وهذا يعنى طريقة 6/4/ صفر.. لكن الفريق كان يهاجم بستة لاعبين حين تبدأ لحظة الهجوم..مع ملاحظة أن إنيستا وسيلفا كانا يتقدمان كثيرا إلى حدود الصندوق الإيطالى بينما يخلخل فابريجاس الدفاع بتحركاته المستمرة عرضيا وهو فى المباراة النهائية كان فابريجاس أخر. إنه ليس مهاجما صريحا، البعض يقول عنه الرقم 8.5.. فهو يعود إلى الخلف إلى منطقة الوسط، وهو بالطبع مهاجم، يفتح القنوات والثغرات فى الدفاع الإيطالى. تحركاته فى الهدف الأول كانت من أسباب الهدف. وخلف فابريجاس مباشرة كان هناك زافى. هو يلعب أحيانا متأخرا قليلا، لكنه فى تلك المباراة لعب متقدما قليلا. وقد يبدو لكم الفارق بين تلك وتلك قليلا. لكنه كثير فى كرة القدم.. عفوا إنها كرة القدم! ●● يبقى الفارق الأخير بين خمس مباريات خاضها الإسبان فى البطولة وبين تلك المباراة النهائية. ففى المباريات الخمس لعب الفريق بفلسفة إنهاك الماتادور للثور، لف ودوران، وتلويح بالقماشة الحمراء، ويصبح من الواضح للمشاهد أنه يعيش الآن تلك اللحظات الختامية التى يصبح بعدها محتما موت الثور.. هكذا كانت مباريات الإسبان الخمس.. أما المباراة النهائية فكانت عبارة عن رقصة فلامنكو.. قدم فيها المنتخب الإسبانى عناصر رقصتهم الشعبية الشهيرة. السرعة، التركيز، المزيج الفريد بين العصبية والهدوء، المرح والفرح والبهجة.. والانتصار.