عشان تتأكد إن مصر فيها حاجة بتتغير، اسمع صوت الشارع، وصوت الشارع هو صوت الناس، مفرداتها اتغيرت ومزاجها اتغير وما يطربها اتغير أيضا، بتحب القديم ومنحاز له، براحتك فنحن نحبه ونجله ونستمتع به أيضا ، ولكن لا تنكر انك مثلنا جميعا تجد نفسك مشدوها ومشدودا للحن مختلف، وايقاعات مختلفة وأصوات بها رائحة البكارة والعذوبة. بعد الثورة وربما قبلها قليلا كانت هناك بعض الإرهاصات تؤكد أن هناك شيئا فى الأفق يقترب، وكأنه طوفان هادر جاء يتحسس خطاه فى البداية، ولكنه طوفان لم تكن فى نيته أن يُغرقنا، ربما يكون قد رفعنا كثيرا من على الأرض لينقذنا من الغرق فى أوحال فن ردىء، يتاجر بكل شىء، حتى اسمى المعانى، وهى علاقتنا بالوطن، علاقتنا بمصر الحبيبة والأم والحضن، الذى لا نعرف قيمته إلا إذا خفنا أن نفقده، عندما كان حمادة هلال يغنى شهداء 25 يناير ماتوا فى أحداث يناير، تلك الأغنية الفجة التى آذت نفوسنا قبل مسامعنا، كان هناك من يغنى كلمات مختلفة، مدهشة تأخذ عقلك وتسكن فى وجدانك، وأنت تسمع صوت مغنى شاب محدثا حبيبته بكلمات غزل ما سمعناها من زمن، ويقول لها أنا عايزك تكونى فى الوريد دمه.. وتبقى فى عقلى أنا همه.. وتبقى ورده جوه القلب.. غيرى يشوفه يتحسر ولا يشمه!! يادين النبى أيه ده، شفت كلام فيه عفة وكبرياء وتقديس لقيمة العشق والمحبوبة مثل هذا، المطرب اسمه «على الهلباوى» من فريق مسار إجبارى، الذى قدم نفحات من فنه فى فيلم ميكروفون، ولكن الفيلم لم يلق الصدى الذى يستحقه، عند عرضه فى مصر، حيث كانت ولا تزال دور العرض تفتح افضل صالاتها المكيفة لأفلام سعد الصغير، وأى رقاصة معاه، وتضن بتلك الصالات على افلام مثل ميكروفون، وهيليوبوليس، وحاوى، ولكن فريق «مسار إجبارى» حفر لنفسه نهرا فى نفوس جيل آخر لم تتلوث مسامعه بالترهات والسخافات التى تحملناها خلال العشرين عاما الأخيرة، واصبح للفريق عشاق ومردين يتبعون عروضه ويحفظون أغنياته، ويرددونها، وقد ساهمت بعض المواقع الإلكترونية فى انتشار الفريق وأصبحت أغنياته أجمل هدية يتبادلها الأصدقاء على الفيس بوك وتويتر، وارتفع عدد السميعة من عدة آلاف الى عشرات الملايين فى اقل من عام واحد! واصبحت أغنية مرسال لحبيبتى بديلا عن «الدباديب الحمراء» التى يتبادلها العشاق فى أعياد الحب، ومناسباتهم الخاصة، ماذا يقول المطرب فى رسالته لحبيبته؟ حبيبتى شرطة مايلة.. فراغ وحا أكتب ليه حروف اسمك.. ما انتى فى قلبى ساكنة القلب وعارفة بقصتى وحالى! هنا المطرب لا يكتب اسم حبيبته فهو يتحفظ احتراما لها حتى لا يصبح اسمها مشاعاً، فالرسالة سوف تصلها على أي حال، وما يهمه هنا فحواها، حيث يكمل المقدمة ويقول لها: ومين غيرك فى قلبى اكتبله مرسالى، ما نيش عارف ده جوابى الكام؟ ماعدتش بحسب الصفحات..ماعدتش بحسب الأقلام.. معدتش بحسب اللى ضاع من الأوهام... كفاية بحبك بس، وقلبك لو بقلبى حس أو شاف حاله فى بعادك، لصلى ربه واستغفر وصام، المقدمة توحى بأنه لم يفاتحها من قبل فى حبه، ولم يجرؤ على البوح، ولكن لما العشق استبد به، قرر ان يرسل هذا المرسال،ليعبر لها عما يجيش فى صدره من مشاعر ويعرض عليها حبه، ليس حبه فقط ولكن ليعرض عليها الارتباط ايضا، ويشرح لها امكانياته المادية وقبلها العاطفية فماذا يقول ؟ ياما فى نفسى تيجى لقبلى وتحنى.. ولازم تعرفى إنى لا عفريت ولا جنى بحبك بس إيدى أقصر كتير منى! واضح أن ظروفه المادية مثل معظم شباب مصر الكادح المكافح، ولذلك فهو يؤكد أن حبه أكبر من ظروفه، ولكنه يعدها بحياة جميلة محترمة لا ينقطها إلا المال، ولكنه فى نفس الوقت لا يستجدى ولا يكذب ولا يجمل وضعه المادى! فيقول لها فى كلمات غاية فى الرقة، والعذوبة ولو كانت حبيبته عندها دم، أو فلنقل لها أهل يقدرون الرجل لكبريائه ويشترون لابنتهم فتى يصونها لكان هذا العاشق الذى يقول فى رسالته التى تتضمن طلب زواج أيضا! مش حا اقدر ايجيبك من الذهب كفة، وأجيبلك من الياقوت كفة.. ولا حا أقدر أجيب الوالى فى الزفة.. ولا حا اقدر أجيبلك بيت .. يموت القطر لو لف فى حماه لفة .. كفاية انى بحبك موت.. وحب الناس شماته وعار.. وحبى عكسهم عفة! يخرب عقلك يا أخى .. مين تلك الفتاة الجاحدة التى يمكن ان ترفض شاب مثل هذا..حب الناس شماته وعار وحبى عكسهم عفة! ثم ينتقل الى الفقرة التالية... مفترضاً انها خلاص وافقت..فيبدأ يمللى عليها شروطه.. اللى هى ايه بقى؟؟ شوف يا سيدى إيه الشروط طبعا ممكن عقلك يقولك حا يفرض عليها تلبس الحجاب، أو تدى صوتها لمحمد مرسى! او تقعد فى البيت وما تتفرجش على مسلسلات تركى عشان ماتشوفش رجاله شكلهم حلو! ابدا وحياتك مفيش فى شروطه حاجة من دى، ولكنها شروط شديدة الرقى من عينه «أنا عايزك تكونى فى الوريد دمه.. وتبقى فى عقلى أنا همه.. وتبقى ورد جوه القلب غيرى يشوفه يتحسر ولا يشمه» أما شرطه التانى فيحدده فى الآتى «وعايز رمشك الجارح .. صراط يجرح فؤاد غيرى ما يرحمش وانا اجيلك أعدى فوق صراط رمشك ولا أخفش وحتى لو وقعت فى يوم من الخضة.. اقع فى عنيكى وأتوضى.. واصلى ركعتين لله وأبوس ننى العينين وأمشى، لا أنا طماع ولافى طبعى الأنانية.. جناين قلبى راح تطرح ولو طال البعاد بيه بحبك قلتها أنا بالكسرة نفسى اسمعها بالفاتحة»! ده نوع من الغناء الجديد الذى الهب مشاعرنا، حيث لا تعرف ان كان المغنى العاشق يتحدث عن حبيبه ولاعن وطن، ولكنك فى جميع الحالات سوف تستمتع وتشعر انك دخلت عصر جديد من الغناء، مافيهوش كلمات ركيكة من عينه ما يردده تامر حسنى من سخافات وتلميحات فجة، وكان حبيبته فتاة شارع واقفة جنب عمود نور وفى بقها لبانة، وحطه حسنة عند ذقنها حتى تكتمل صورة العاهرة كما عودتنا عليها افلام الخمسينيات! وكنت اعتقد ان مسار اجبارى حالة استثائية مثل بيضة الديك أو الفيل أيهما أقرب! حتى فوجئيت واكيد أنت الآخر ممكن أن تنتقل لك تلك القشعريرة اللذيذة التى تنتقل للإنسان صحيح النفس والروح، عندما يستمع إلى فن جميل، يلطش إحساسه ويخترق وجدانه قبل ان يدرك انه كان يستمتع إلى اغنية! كنت اجلس «لا بيه ولا عليه» أنتظر أحد البرامج المسائية التى يصرخ فيها كل الناس بكلام غير مفهوم ويتبادلون الاتهامات، وبعض الشتائم، لزوم التسخين، ويقوم كل منهم بتخوين الآخر ونعته بأحقر الصفات التى تجعل منه خائناً وعميلا، فاقدا أى معنى للانتماء، فإذا بموسيقى شرقية خلابة بإيقاعات متداخلة يبرز منها صوت الناى أحياناً، ثم صورة تتحرك امامك فى سلاسة تستعرض أجمل أحياء مصر القديمة، فتجد رائحة المسك والبخور والعنبر قد ملأت المكان، ويبرز من عمق الكادر، شاب مصرى عريض المنكبين «شلولخ» على رأى عادل إمام، ومعه آخر يحمل ملامح طفل متمرد، وفنان عقد العزم على الإطاحة بكل مظاهر القبح الغنائى الذى نعيشه، ثم تجد نفسك إتاخدت على خوانة،عندما يبدأ نور محفوظ فى الغناء، متغزلا فى مصر باليل، فعلا مصر باليل لها سحر لا يقاومه ولا ينكره إلا كافر زنديق! شوف أنت بتلعن طول النهار فيما وصل اليه حال مصر من فوضى وقذارة، وانبطاح وسوء طالع، وسوء أخلاق وسوء كل حاجة، لكن ما تقدرش تنكر انها بالليل بتبقى حاجة تانية خالص، وكأنها قديسة قد تدثرت برداء من الأضواء المرمر أخفى عيوبها بلمسة سحرية، ولم يظهر إلا أجمل وأطهر ما فيها بمآذنها المتلألئة، ومبانيها العملاقة التى ترمى بأضوائها على صفحة النيل الخالد، فتدرك كم كان صادقا ونبيلا الشاعر على محمود طه وهو يكتب عنها رائعته التى غناها عبدالوهاب من خمسين سنة النهر الخالد، ومن يومها محدش جاب سيرة نهر النيل ربما لاننا أهملناه ولم نعلم أولادنا أن مصر هبة النيل، فتحول النيل الى مقبرة للحيوانات النافقة ونفايات الكازينوهات العائمة والمراكب االسياحية التى لا تحترم حرمة مياه النيل وقدسيتها،ماعلينا منظر مصر بالليل أجمل وأحلى من كل عواصم أوروبا ويفوق سحرها ماتراه فى باريس او لندن، ببساطة لإنها مصرنا بتاعتنا تشبهنا ونحبها وتحبنا رغم كل قسوتها علينا وقسوتنا عليها، فإذا هذه الأغنية الجميلة لفريق صوت الشارع تذكرنا بأن مصرنا لها سحر لا يقاوم بالليل. يتسلل صوت نور محفوظ إلى وجدانك بصوت يحمل الكثير من الرجوله والكبرياء ويغنى بسلاسة وكأنه يتحدث فى همس ولكنه هذا الهمس الملىء بالشجن لدرجة الوجع ويقول فى كلمات لا تقبل اللبس أو التأويل «مصر بالليل فيها سر.. فيها ضحكة من دموع.. فيها إعرف فعل أمر.. والطريق مافيهوش رجوع..مصر بالليل تمر حنة.. ريحة جاية من أحلى جنة.. مصر بالليل شمعدان..مصر بالليل أمى ودنيتى فيها برتاح بعد دوختى مصر بالليل حضن يجيب أمان.. وريد عليه زميله بينو فارس عبد الله ويؤكد على كلامه ويقول « مصر بالليل مش كبارى وقهاوى وبنات.. مصر بالليل الحوارى والقلوب والذكريات! وتكتشف فجأة هى مش فجأة قوى لأنه شعور مدفون جوانا بيظهر عندما تستدعيه بأغنية جميلة أو فن راق،تكتشف انك دايب دوب فى عشق هذا البلد،مهما حصل ومهما كان، وإنك لاتبكى إلا خوفا عليها أو عشقا لها! كلمات الاغنية لإياد أبوبكر واللحن لبينوفارس عبدالله، وتوزيع حازم الأبيض أما الكليب فهو من إخراج عماد خشبة، وسوف تكتشف يا أخى ان المخرج لم يستعن بفتيات متهتكات يرقصن بلا داع ولالزمة أمال البهجة دى كلها كيف وصلت إليك، وكيف سكنت أرقى منطقة فى وجدانك؟