د. منير الحايك أن تبدأ بقراءة رواية ومنذ صفحاتها الأولى تذكرك برواية «قصة موت معلن» لماركيز، وتشدّك كما شدّتك رواية ماركيز، فهذا يعنى أنك أمام نصّ روائى مهمّ وعميق، وهذا ما حصل معى عندما بدأت «ليلة السكاكين» (دار نوفل 2025) للكاتب عروة المقداد، (وأريد التركيز على أنها رواية على الرغم من أنها من ضمن مشروع «نوفيلا» الذى أطلقته الدار، ولكن لن أخوض فى مسألة التسمية والتصنيف لأننى بالفعل لا أمتلك إجابة سوى أنها رواية متكاملة من وجهة نظري) رواية حول وقائع مقتل «ابن سلامة» العائد إلى قريته بعد طول غياب، أما أسباب الغياب والعودة، فهى القضية وهى أساس بناء هذا النص السردى الجميل. ابن سلامة هو ابن امرأة تدعى سلامة بالفعل، توفّى زوجها فلم تقبل الزواج من بعده لتربّى ابنها وتعتنى به، فطالتها ألسنة أهالى القرية، تعددت الأسباب والتهمة واحدة، وبسبب الشائعات وتداولها وسلطتها فى الأرياف، شُكِّك بنسب الفتى، وكُنّى بابن أمّه. ويظهر فهدٌ مع سلامة، وجدّة الراوى، والرواى شخصية تظهر لا ليكون لها تأثير سوى أن يكون دور صاحبها بوصفه راويًا مقنعًا، فهد المختار، والذى يورّث ابنه، ابن فهد، السلطة والجاه والمال، وتبدأ رحلة ابن سلامة وابن فهد مع بداية ثورة أو حرب أو مهما كان اسمها، فى تلك البلاد، وتكون القرية نموذجًا مصغّرًا للبلاد كلها. البلاد هى سورية وثورتها وحربها، والمقداد لم يبذل جهدًا ليبعد نصّه عن الواقعية والحقائق، ولكنه لم يذكر الأسماء بتوثيقيتها ليعطى نصّه بعدًا رمزيًّا أعمق. تبدأ قصة ابن سلامة مع عودته إلى قريته التى اختيرت ليكون أبناؤها عبرة، حيث حصل فيها موت وقتل من قبل رجال السلطة، ولأنّ ابن سلامة أراد التسلل بعدما أوقفوا الحافلة التى كان عائدًا فيها من عمله، وللمصادفة يواجهه أحد عناصر الأمن، فيقتله، فتبدأ قصته وأسطورته، ما كان حقيقيًّا منها، فى القصة والسرد والواقع، وما كان أسطوريًّا خارقًا للعادة. تظهر شخصيات عدة كخطيبة ابن سلامة التى تجنّ، أو يمسسها الجن، وبعدها ساجدة، التى أنقذها ابن سلامة من الاغتصاب والموت، فأحبته، وجنّت بحبه وهو لا يعرفها ولا تعرفه سوى من تلك الحادثة، ساجدة التى تحكم سيطرتها على زوجها ابن فهد، فتصبح هى الحاكم الرئيس، والشخصية الأقوى فى النص وفى البلاد. وتكون هى الأساس فى التحريض على قتل ابن سلامة ليلة السكاكين، ولتحليل رمزية شخصية ساجدة نحتاج مقالًا كاملًا! ابن فهد مثّل السلطة والقمع، ولكن الأستاذ كان العقل المدبّر، ويظهر مع الأستاذ عبد الجبّار والشيخ يونس وبنات آوى، وغيرها من الشخصيات، ولعلّ أبرزها جدّة الراوى، العجوز الحكيمة التى تنطق بالنبوءات والحق، ويثق الناس بصلواتها وأدعيتها، وتكون هى صوت الطيبة والإيمان الذى يميز الكثيرين من أبناء البلاد، ولكن ما حصل جعل أصواتهم تخفت وتضيع وتموت. قصة ابن سلامة، وساجدة التى أحبته وانتظرته، وابن فهد الذى أصبح عدوّه بسبب حب زوجته ساجدة له، ولأنه مثّل الثورة، فى حين قرر ابن فهد أن يبقى القرية موالية للنظام الحاكم، أسباب كثيرة جعلت من ابن سلامة بطلًا وضحية فى آن، وهذا ما أراته الرواية، أرادت القول إنّ البطل الشعبى، أو الأممى أو الأسطورى، قد يكون إنسانًا عاديًّا، أوصلته ظروفه الخاصة، أو ظروف أهله أو أحبائه أو أبناء بلاده، أو قد تكون مصادفة، ليصبح ما هو عليه، بطلًا أم أسطورة أم ضحية، لا فرق، طالما أنّ من دافع عنهم، لم يدافعوا عنه، ولم يذكروا اسمه حتى فى نعيِه، وأقاموا عرسًا بعد مقتله وتقطيع جسمه بأسبوع واحد فقط. ساجدة وسلطانها على زوجها وعلاقاتها ونزواتها، ابن فهد وخداعه ومكره وفساده، بنات آوى ودورهم فى نشر الفساد وتكريسه، الأستاذ وسلطته فى رسم المخططات والألاعيب، الشيخ وعبد الجبار وغيرهم، شخصيات قد يُفرد لها الباحث مقالات وأبحاثًا، خصوصًا عندما يحمل كل واحدة منها ويسقط صفاتها وأفعالها على الواقع، فى سوريا، أو فى لبنان أو فى أيّ بلد من بلادنا المأزومة. أما شخصية ابن سلامة، البطل الأسطورة، وطرح مفهوم البطل والبطولة، فهى الأساس الذى حبك الكاتب قصته حولها، لا ليقرّ بالاستسلام، أو ليقرّ بالعبثية ونفى القيمة عما يقوم به هؤلاء «الأبطال»، بل ليطرح الأسئلة الكبرى، لكل هذه المفاهيم، فى بلادنا على وجه الخصوص. لم يأخذ النصّ موقفًا من نتائج الثورة، أو الحرب، أو الخراب، مهما تعددت التسميات والاختلافات حولها، على الرغم من ميله الواضح نحو الثورة ضد النظام، إلا أنّ المقداد، الذى ضحّى وكان أوّل الثوار فى بلاده، أراد أن يقول فى نصّه، مرمّزًا، ما يريد أن يقوله صراحة، إنّ البلاد لن تنهض إن سقط نظام الفساد والقمع بأصحاب اللحى والمنتفعين، متدينين كانوا أم انتهازيين أم فاسدين... وأنّ الأمل الذى شكّلته شخصية ابن سلامة، والذى أماتته الرواية منذ بدايتها، هو أمل ميت منذ ولد، وإنّ بلادنا سيحكمها متشابهون، وسيكون لكلّ زمان أستاذه وساجدته وابن فهده وبنات آواه! لغة الكاتب عنصر من أقوى عناصر النص، ولكنّ الرموز والمتعة التى تحفّز المتلقيّ لفكّ شيفراتها تجعله ينسى اللغة والاستمتاع بها أيضًا، ولكنها كانت تحضر وتشدّ المتلقّى دائمًا، وكانت عبارات يبثّها الكاتب، بشكل طبيعى وسلس من دون جهد أو تكلّف، تحضر وتفرض وجودها، بالإضافة إلى السرد الشائق والمتماسك منذ الصفحة الأولى وحتى الأخيرة. شخصية الراوى، الذى يقول إنه أصبح أستاذًا جامعيًّا، أى إنسانًا عاديًّا على حدّ قوله، فى زمن الفساد والحرب والموت والبطولة، كان اختياره راويًا من قبل الكاتب موفّقًا جدًّا، لأنه كان يحضر ويحكى رأيه ورؤيته، ليكسر رتابة، حتى وإن كانت رتابة التماسك والقوة فى السرد، ليهدّئ المتلقى الملاحق للرموز وللأحداث، والمستعيد أحداثًا حصلت فى البلاد، مستمرة وستستمر. رواية «ليلة السكاكين»، بجميع مكوناتها وعناصرها، نصّ سرديّ يشكّل صرخةً قوية بأسئلة كبرى، يجب أن يطرحها أبناء البلاد المأخوذين بالانتصار، أو بالهزيمة، ليقول لهم اهدأوا، وانظروا بتمعّن إلى المشهد، واطرحوا الأسئلة وناقشوها، لأنّ البلاد تحتاج منّا أن نبذل الكثير، فى سبيل أن تصبح بلادًا صالحة للحياة، ولاستمرار الحياة فى المستقبل.