محمد عبد النبى كتب كافكا فى (رسالة إلى الوالد): «لا تتعلَّق كتابتى بشيءٍ آخَر سواك؛ كل ما فعلتُه هناك، على أى حال، كان لكى أبكى كما لم أستطع أن أبكى وأتفجَّع على صدرك.» ربمَّا هناك لمسة دينية فى هذه الرَغبة فى التفجُّع على صدر أبٍ مفتَقد. ربما مِن غياب هذا الأدب تولُد الكتابة. نقطة انطلاق رواية (هذه ليست رصاصة) لكاتبها عبد الله ناصر حادثة إطلاق والدِ الراوى بضع رصاصات على رجلٍ ما لجُرمٍ اقترفه ابنُ ذلك الرجل، ثم قضاء الأب عقوبة السجن لعامين وبضعة أشهر، آنذاك كان الابن، راوى الحكاية، بين الرابعة والسادسة من عمره، فى منتصف ثمانينيات القرن العشرين، غير أنَّه، رجلًا ناضجًا فى الزمن الحاضر، لا يستسلم أمام هذه المفارقة الزمنية، ويعيد رسم الحكاية عبر جمع شظاياها من هنا وهناك، وربما لا يهمه مِن تلك الحكايات القديمة فى الحقيقة سوى استجلاء صورة أبيه، واسترداد شيء من حضوره بعد رحيله النهائى. صدر للكاتب السعودى سابقًا مجموعتان قصصيتان، هما (فن التخلّي-2016)، و(العالق فى يوم أحد-2019)، تتميزان بالأسلوب المقتصد والمقطَّر، حتَّى تتراوح قِطعه السردية ما بين سطرين إلى صفحتين، فى أبعد نقطة من الاسترسال المطمئن والبناء الأفقى، الذى يجرّبه هنا فى روايته الأولى، التى على عكس قصصه ذات الفضاء الحُر، غير المقيد بزمن ومكان دقيقين أو ثقافة واضحة، تخرج مغروسة فى سياق محدَّد بدقة، الملكة السعودية فى منتصف ثمانينيات القرن العشرين، وإن بقيت إحالاته الثقافية والفنية منطلقة شرقًا وغربًا، كما فى أغلب قصصه، وصولًا إلى لوحة ماغريت التى تشكِّل حجر زاوية للرواية. التمسُّك بالكثافة والإيجاز، كآلية أسلوبية مفضَّلة لدى عبد الله ناصر، لم يَعنِ هُنا بالضرورة إيقاعًا سريعًا؛ سَردُ الرواية هادئ ومتمهل، غير مُتهلف على إخبار القارئ بكل شيء دفعة واحدة يظل القارئ متعطشًا لمعرفة أصل الحكاية وفصلها، حتَّى مع توغُّله فى فصولها وإطلاعه فى كل فصل على جانبٍ آخَر من جوانبها، سواء كان هذا الجانب سابقًا للحادثة المركزية أو لاحقًا عليها. يفتح السرد أيضًا أبوابه على التأمُّلات، تأتى ممتزجة أحيانًا بدم السرد ولحمه، وأحيانًا تقف على حواف الحكاية مثل أقوال مراقِب خارجى، ففى أكثر من موضع قد نقرأ جملة تختم فقرة كأنها تحاول الخروج بمقولة ذات عِبرة فى صيغة شاعرية، من قبيل: «للنوائب براجِم تطرق على القلب»، أو «يتلقَّى المرء فى حياته بضع مكالمات مشؤومة، وعندما يحينُ الوقت يغدو هو نفسه خبرَ المكالمة». بعيدًا عن الإحالات الفنية والثقافية، وكذلك التأمُّلات، فإنَّ الدماء تسرى بقوة فى أوردة النص، وتضخ فيه روحَ الحيوية والعافية، كُلَّما اقتربَ الراوى من تشكيل صورة أبيه بالكلمات، فيتريث ويأخذ وقته تمامًا، قد ينتبه القارئ مثلًا إلى وصف الراوى الابن لخطوط كف أبيه، أو استغراقه فى وصفٍ دقيق لتوقيع أبيه باسمه، وكيف كان أبوه يعشق التوقيع باسمه على أى ورقة تقع تحت يديه، «ولو على أطراف الجريدة مِن يرى انهماكه سيظن أنه يرسم لا يوقِّع». يرسُم الأب اسمه مرة بعد أخرى كأنه يستولدُ من الحروف مرايا صغيرة لِذاته، ويرسم الابنُ (فى روايته عنه) توقيعَ أبيه بالكلمات فى أكثر من عشرة سطور، بدرجة من الدقة والعناية قد تبدو لأى شخصٍ سواه غير ذات مغزى. وهكذا فَقد نتعاطف مع مَن يقرأ هذه الرواية بوصفها مرثية للأب، ومع مَن يعتبر واقعة إطلاق الرصاص برمتها ليست أكثر من ذريعة لاستعادة الأب، لا لتبرئة ساحته أو إضفاء هالة أسطورية عليه وهى موجودة شئنا أم أبينا، بل لاستجلاء تفاصيل صورته فى نَفس الراوى وذاكرته، أو لِلحاق به، على نحوٍ أو آخِر: «كان أبى رجلاً أشم، فارع القامة، إذا ما سارَ اتسعت خطواته وبات عليَّ أن أجاهد للحاق به كما أفعل الآن حين أكتب هذه الفقرة. أكاد أسمع صوت حذائه الأسود يتقدمني». لعلَّنا لا نكتب إلَّا للحاق بآبائنا، ولا نلحق بهم أبدًا، يتقدموننا دائمًا وأبدًا، فى المكان والزمان، مغمورين بضبابة الغموض مهما ظننا أننّا نعرفهم حقَّ المعرفة، كما تباهى الراوى. ولعلَّها أيضًا لعبة الرجال القديمة، كل رجل يحاول أن يدركَ أباه، يحاول أن يُشبَه أباه، تاركًا أمَّه وراءه فى الظِل، تنتظر، تقاوم الخوف والزمن، وتربِّى الصبر. لا تكاد تظهر والدة الراوى فى الثلثين الأوَّلين للرواية إلَّا بقدر ما تتيحه سخونة الأحداث أو بقدر ما تترك صورة الأب من هامش ضئيل. مع تقدُّم الرواية وغياب الأب فى السِجن، تبدأ فى الظهور فتُرى وتُسمَع، إلى جانب أخريات، حتَّى تكاد تستولى على السرد فى الصفحات الأخيرة، وقد ضعضعها المرض، إلى أن نصل للسطر الأخير من النص، مقرًا لها بالفضل: «لولا أمى ما كانت نسختنا العائلية من لوحة «الناجي» لتخلو من بقعة الدم.» تتبدَّى قسوة الذَكر مسربلة بثوب العدالة والشَرف والكرامة، تتبدَّى ابتداءً من الحَمَام الذى يُفسد قيلولة الأب بِسَجعه فيستيقظ مكدَّر المزاج ويُعمل فيه القتل. كما تتبدَّى القسوة أيضًا فى التحرش الجنسى بالطفل، أو ربما اغتصابه، ثم القصاص مِن الشاب الفاعِل بالضرب المبرِّح وإذلاله ثم إطلاق الرصاص على أبيه عند تعديه على حُرمة بيت عائلة الطفل، ثم محاولة لم تكتمل لقتل ابنه الفاعِل المضروب. حلقات العنف القديمة ذاتها، وإن كانت مروية بأسلوب يبلغ من الرقة والسلاسة والحنان ما يوشك أن يجرِّدها من قسوتها وغلظتها. يستخدمُ الراوى تشبيهًا شديد الأمومية، عندما يرغب فى الربط بين يدى أبيه تحملانه فى الليل وهو نائم إلى داخل البيت، فى أثناء زياة عائلية تأخَّرت، وبينه هو نفسه حاملًا طفله فى اللحظة ذاتها وبالطقس المعهود ذاته، وبين طفله هذا عندما يحمل طفله النائم بعد عشرين أو ثلاثين سنة من الحاضر، فَيقول: «لا بدَّ أن يتذكَّر تلك اليد التى كانت تربطه بأبيه مثل حبلٍ سُريّ.»، يجعل من أيادى الرجال حاملين أطفالهم النائمين لدفء البيوت حبلًا سُريًا آخَر، غير الذى ربط جميع الرجال بأمهاتهم ذات يوم. حتَّى وصف الأسلحة يردُ بأسلوب رائق ورقيق، بلا حماس زائد بل ربما بما يشبه الحياد الحذر يستعير الراوى، هنا وفى مواضع أخرى، نبرة صوت الخبير المثمن، وهو يحلل أصل أنواع المسدسات والبنادق التى لأبيه أو لآخرين. يبسط المعلومات ويورد الحقائق والأرقام، فى محاولة للنأى بنفسه، للتَظاهُر بالحياد، لإضفاء طابع عام وموضوعى على واقعة شديدة الذاتية والجوَّانية. يفعل الراوى ذلك أيضًا فى مواضع أخرى، عندما يتناول مثلًا بعض المسائل القانونية الخاصة بقضية أبيه أو الإسعافات الأولية كأنَّ الصوت فى هذه المواضع، يستعيد صوت الطفل ثم الصبى الذى يتعرَّف للمرة الأولى على جريمة أبيه القديمة ثم سَجنه، وكأنَّ هذا الطفل فى عمله على تجميع أجزاء الصورة من هنا وهناك، يلصق أجزاءها معًا بما يشبه المعلومات العامة، متحدثًا كهؤلاء الكبار العارفين بكل شىء، ومتشبثًا بدقة الحقائق والأرقام واللوائح والقوانين، جابرًا بها كسور الذاكرة وهشاشة الأقاويل المفتتة والروايات المتعارضة والتأويلات الذاتية والتحاملات، إلى آخِر كل ما يحوِّل الواقعة الواحدة إلى رواياتٍ متعددة بعدد أطرافها وشهودها. لا عجبَ إذن مِن اختيار ضمير المتكلّم، فى رواية كان من الممكن أن تتعدَّد فيها الأصوات والرؤى، وكان من الممكن أن يمكّنها الراوى العليم من التسلل باطمئنان إلى الغرف المغلقة وما تخفى الصدور، ذلك لأنَّ الصبى الصغير لم يزل موجودًا، متخفيًا فى داخل صوت الراوى، الراوى مكشوف الأوراق الذى لا يخجل من أن الإشارة الواضحة إلى فِعل الكتابة نفسه، فى موضع أو آخَر، الراوى الذى شبَّه عَمله على تجميع المعلومات والحقائق بعمل الرسَّام الجنائى: مضيتُ أستمع إلى شهادات الأحياء وهسيس الأموات. أرسم الحادثة بالسَمع مثلما يفعل الرسام الجنائى. أجمع الأوصاف والتشبيهات حتى صار عندى هذا الرسم للحادثة لا حقيقة إذًن، بل هو مجرد رسم، رسم من الذاكرة، رسم من أقوال الشهود، رسمٍ آخَر للأب بعيدًا عن الصور الفوتوغرافية ذات البُعدين القاطعين رسم لا يختلف كثيرًا عن رسم رينيه ماغريت للبندقية المستندة إلى الجدار، ينزف الدم من خشبها العتيق الداكن، فى لوحة (الناجي) التى يُفرد لها الكاتب فصلًا مُعتبرًا فى روايته، الفصل الذى يشدُّ أطراف العَمل فى حزمة واحدة، ولا يتهيب من أن يلعب دور المعلِّق على الأحداث والمفسَّر لها، محللًا اللوحة ورابطًا إيَّاها بلوحات أخرى لماغريت ثم بحكاية الأب القديمة نفسها، وفى المركز منها مفهوم النجاة، الذى اتخذه ماغريت عنوانًا للوحته، ليبقى لغزًا عصيًا على التفسير، وليفتح لعبد الله ناصر أبواب اللعب مع الاحتمالات. نفس الأبواب التى يفتحها، أمام القارئ، بالعنوان المستعار أيضًا من رينيه ماغريت، على طريقة لوحته (هذا ليس غليونًا) التى تصوِّر غليونًا بكل وضوح. ربما لأنَّ الحكاية ليست رصاصة، التى بدت فى على غلاف الرواية، فى رسم إيمان النويصر، أقرب ما يكون إلى غرض أنثوى كأنها إصبع طلاء شفاه من نوعٍ ما. ربما لأنَّ الحكاية حكاية الشاهد والمشهود، حكاية الرَسم والرسَّام والمرسوم، والمعنى المراوغ بينها جميعًا. غير أنَّ الرسَّام الجنائى يترك خلفه بصماته فى كل موضع من الصورة، من الرواية. وشى الرسَّام بنفسه عبرَ أسلوبه، والأسلوب هو البصمة التى يمكن الوصول بها إلى مقترف الجريمة بحسب أورهان باموق فى رائعته «اسمى أحمر»، فإنَّ أسلوب عبد الله ناصر من الصعب أن يتنكَّر أو يُنكَر. بما أنَّ «الأسلوب هو التوقيع لا تلك الحروف الصغيرة أسفل اللوحة». تلك البصمات التى تقود إلى المناطق الخفية فى النفس، إلى التفضيلات الحميمة فى الموسيقى والفن وحتَّى اختيار المفردة، إلى النواحى الغامضة للروح والوجدان. تمامًا كما قاد السرد الراوى من أبيه إلى أمِّه، كما نعود للاقتراب من الأرض مع التقدُّم فى العمر، مستعدين لعناقها الأخير وللعودة إلى رحمها، مَهما شمخنا بأنوفنا فى الشباب والعنفوان، ومهما تطاولت للسماء أعناقُ الرجال.