إبراهيم زولي لم يكن اسم رفعت سلام يمرّ عرضًا فى حياة قارئ عربى يتابع ما يكتب ويُترجم؛ كان جزءًا من المشهد نفسه بالنسبة لي، كانت مصر – بما تمثله من ثقل تنويرى فى العالم العربى – فضاءً أتابع من خلاله تحركات هذا الشاعر والمترجم الذى حمل إلينا سلسلة من الإسهامات التى غذّت النقاش حول الشعر والحداثة لقرابة نصف قرن. فى العام 2009م، كنت فى القاهرة صادفت إعلانًا عن ندوة فى اتحاد الكتّاب بالزمالك حول قصيدة النثر، يقدمها رفعت سلام ذهبت وحدي، مدفوعًا برغبة فى الإصغاء لمن يتحدث عن القصيدة من موقع الشاعر والمترجم العارف بمصادرها وأسمائها. بعد انتهاء الندوة التفّ الحضور حوله، وبقيت على الهامش أوازن بين رغبة السؤال وتوجّس الغريب الذى لا يعرفه أحد. حسمت ترددى وتقدّمت إليه بأسئلة عن تاريخ قصيدة النثر وأهم اسمائها وأشهر نماذجها فى العالم. قبل أن يجيب عن أى شيء، وقبل أن يسألنى حتى عن اسمي، التفت نحوى وسأل بهدوء: «إنت فاضى ولا مشغول؟» أجبته: «فاضى يا أستاذ» قال: «يبقى نكمّل الكلام فى مقهى الحرية». هكذا ببساطة أزاح المسافة بين شاعر كبير وقارئ جاء من بلد آخر. من تلك الليلة بقى فى ذاكرتى بوصفه نموذجًا نادرًا لتواضع المعرفة لا يتكئ على مكانته ليرفع حجابًا بينه وبين الآخرين، بل يفتح الطاولة للحوار كأنها امتداد طبيعى للكتاب فى كل زيارة لاحقة لمصر كان لقاؤه جزءًا من برنامج الرحلة؛ حتى فى أيام الحظر كان يجد وقتًا للخروج ضمن الساعات المتاحة، كأن الصداقة جزء من مسؤوليته الثقافية أيضًا. فى إحدى الليالى كنت اسأله عن ترجمته للأعمال الكاملة للشاعر اليونانى قسطنطين كفافي، الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وعن رغبتى فى الذهاب لزيارة منزله فى الإسكندرية فشجعنى على ذلك، وقال لى اسأل هناك عن شارع اسمه شرم الشيخ ستجد من يدلك، وأضاف إذا أحببت مشاهدة ضريحه فستجده فى الشاطبي وفى صباح اليوم التالى كنت استقل القطار للإسكندرية، متوجها لزيارة المنزل والضريح ولا أنسى أنه حرضنى على قراءة رائعة تولستوي، موت إيفان ايليتش، ترجمة مها جمال، التى صدرت عن سلسلة ال 100 كتاب ضمن مشروعه التنويري. لم يكن رفعت سلام مثقفًا من ذلك النوع الذى يخذلك حين تراه خارج كتبه، وممن يصدق عليهم المثل المعروف «سماعك بالمعيدى خير من أن تراه». كان إنصاته لمُحاوره يسبق حديثه، وملاحظاته تأتى منسوجة من قراءة واسعة للمشهد العربي، بما فى ذلك ما يُكتب فى السعودية والخليج. أحتفظ بعدد من كتبه ممهورةً بإهداءاته، من بينها ترجمته للأعمال الكاملة لشارل بودلير، ومعها صور قليلة جمعتنا فى قاهرة المعز، تبدو اليوم كهوامش بصرية على متن طويل من المحبة والمعرفة. فى الذكرى الخامسة لرحيله، «1951-2020» يتبدّى حضوره كما لو أنه لم يغادر المشهد قط، كأن غيابه لم يكن سوى انتقال إلى طبقة أكثر صفاءً فى الذاكرة الثقافية العربية شاعر الحداثة المتمرّد، والمترجم الذى فتح نوافذ اللغة العربية على الرياح القادمة من باريس ونيويورك وموسكو وأثينا، يبقى مرجعية لا يستهان بها فى فهم تحولات الشعر العربى خلال نصف قرن. منذ رحيله فى السادس من ديسمبر، 2020، بقيت سيرته شاهداً على سؤال الحداثة ومعضلتها: كيف يمكن للّغة أن تنفتح على العالم دون أن تفقد هويتها؟ الشاعر الذى تأخر عمداً ليأتى كاملاً لم يكن من الذين يتسابقون إلى المنابر. تأخر ديوانه الأول «وردة الفوضى الجميلة» حتى عام 1987، رغم أنه من أهم أبناء جيل السبعينات، وأكثرهم تمثيلاً لوعيه التحرري. ذلك التأخر كان نوعاً من الاختبار، تمريناً على الصبر الجمالي، وكأنه أراد أن يستنفد كل احتمالات القصيدة قبل أن يعلن انتماءه لها. وفعلاً، حين أصدر ديوانه الأول، بدا المشهد الشعرى كما لو أنه خرج لتوّه من تجربة تأمل طويلة اختبر فيها الإنسان واللغة والوجود.لم يكن منخرطاً فى جماعة أدبية مغلقة، بل فى فكرة تتجاوز الجماعات: فكرة الانفتاح. وفى هذا الأفق شارك فى تأسيس مجلة «إضاءة»، ثم أعلن انسحابه منها، وأسس منفردا مجلة «كتابات»؛ منبرين لتجريب اللغة النقدية والشعرية خارج القوالب المألوفة. كان يرى أن الشعر لا يُكتب إلا حين يتورط الكاتب فى أسئلته الخاصة، لا حين يتكئ على وعى الجماعة. شاعر يترجم العالم إلى العربية، ربما يُخطئ من يظن أن ترجماته كانت عملاً موازياً لكتابته الشعرية. عند صاحب «هكذا قلت للهاوية»، الترجمة امتداد للقصيدة، والقصيدة نوع من الترجمة الداخلية. بفضل نقله للأعمال الكاملة لشارل بودلير، ورامبو، ووالت ويتمان، ويانيس ريتسوس، وكفافيس، أصبح الشعر العربى الحديث على تماس مباشر مع روح الحداثة العالمية لا فى مضمونها فحسب، بل فى طاقتها اللغوية وانفتاحها على التناقض والغرابة. ترجمته لبودلير كانت حفراً فى نواة القصيدة الحديثة، لا كتقليد للأصل، بل كحوار بين لغتين تشتركان فى القلق. ومع رامبو، بدا وكأنه يترجم مرآته المجهولة، الشاعر الذى شرّح اللغة ليصل إلى أقصى جنونها. أما ويتمان، فكان بالنسبة إليه مشروعاً موازياً لفكرة «الكلّ الشِعري»، برياحه الديمقراطية التى تحتفى بالإنسان العادي. لم يتوقف رفعت سلام عند الفرنسيين والأمريكيين، بل ذهب إلى الروس واليونانيين: بوشكين، ليرمونتوف، ماياكوفسكي، ريتسوس، كفافيس. كل ترجمة كانت بحثاً عن ظل جديد للشعر فى العربية. ولعل مساهمته فى مراجعة وتقديم كتاب سوزان برنار «قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا» ترجمة راوية صادق، تؤكد وعيه النقدى العميق الذى مارسه وأصرّ على فتحه أمام الكتاب العرب. فهو يدرك أن قصيدة النثر ليست تمرداً على الأوزان فقط، بل ثورة فى مفهوم الإيقاع والذات والمعنى. الباحث النقدى فى التراث والشعر الحديث عن رفعت سلام لا يكتمل دون التوقف عند وجهه النقدي. ففى كتبه «بحثاً عن التراث»، «بحثاً عن الشعر»، و«المسرح الشعرى العربي»، يمكن قراءة مشروع متكامل لإعادة تأمل علاقة العربى بذاكرته الثقافية. لم يكن يفهم التراث كصندوق مغلق على الماضي، بل كحقل مفتوح للتأويل، سؤال متجدد أكثر منه يقيناً جاهزاً. فى كتاباته النقدية نزعة حوارية ترفض القطيعة المطلقة مع الموروث، لكنها أيضاً ترفض الخضوع له. لذلك كان يؤمن بأن الشعر العربى لا يُبعث إلا إذا دخل التراث فى مختبر الحداثة، لا بوصفه عقبة، بل محفزاً للاشتعال الإبداعي. رفعت سلام لم يكن مجددا بالمعنى الأكاديمى للحداثة، بل حداثياً بالمعنى الكينوني. كان يرى الشعر كمغامرة وجودية أكثر منه تمريناً على اللغة، ومهمة الشاعر ليست التزيين، بل اقتراح طريقة مختلفة للوجود. هذه الرؤية طبعته بنزعة «شعرية فلسفية» تضع الذات أمام مرآة الكون، وتجعل من اللغة مادتها القابلة للتحول المستمر. فى دواوينه التسعة، من «وردة الفوضى الجميلة» إلى آخرها «حجر يطفو على الماء» (2008)، تتطور القصيدة بوصفها بنية مفتوحة، تراهن على الحلم بقدر ما تراهن على التناقض، وعلى التعدد بقدر ما تحتفى بالصوت الفردي. كان يرفض اليقين ويؤمن بالاحتمال. نال رفعت سلام جائزة كفافيس الدولية للشعر عام 1993، غير أن حضوره لا يُقاس بالجوائز. فالرجل كان شاعراً نادراً فى زمن ازدحام الأصوات، وناقداً يحوّل الأسئلة إلى مختبر، ومثقفاً يؤمن بأن الثقافة فعل مقاومة ضد السطحية. ترك مشروعاً مفتوحاً لم يكتمل، كأنه أراد أن يترك للزمن مهمة إكماله حين يتأمل قارئ اليوم إرثه الشعرى والنقدى وفى الترجمة، يكتشف أنه لم يكن فقط ناقلاً لأصوات الآخر، بل كان يُعيد تأسيس الذات العربية على أرض الحداثة العالمية، عبر وعى شعرى متصل بالكون. لغته كانت رصينة لكنها مشتعلة، متوازنة بين الفوضى والدقة، مليئة بالإشارات التى تفتح النص على طبقات من التأمل. اليوم، ونحن نتأمل منجزه، يبدو أثر صاحب «كأنها نهاية الأرض» شبيها بالقصيدة التى لم تُكتب بعد وجوده فى الذاكرة الثقافية ليس حضوراً نوستالجياً، بل استمراراً للحوار الذى فتحه بين الذات والعالم ترك وراءه جيلاً جديداً من الشعراء والمترجمين الذين وجدوا فى تجربته نموذجاً للحرية الفكرية والإبداعية، نموذجاً للانفتاح بلا خوف، وللتجريب بلا تبرير هو من القلائل الذين جعلوا الحداثة العربية تتكلم بالعربية حقاً، لا بوصفها خطاباً مستورداً، بل كخبرة داخلية تتجسد فى اللغة وفى نظرة جديدة للعالم. وفى الذكرى الخامسة لرحيله، لا نرثى رفعت سلام كما يُرثى الغائبون، بل نقرأه كأننا نتلقى رسالة جديدة منه. نحدّق فى نصه، فنكتشف أن الشعر الذى أراد أن يظهر عبره، قد استعصى على الموت، وتحوّل إلى شكل آخر من الحياة. ففى كل بيت شعري، فى كل نص مترجم، فى كل عبارة تأملية تتردد فى هوامش مؤلفاته، يواصل رفعت سلام كتابة انتمائه إلى العالم، وتوسيع احتمالات المعنى، ودعوتنا إلى الشك، والانفتاح، والجرأة.