يكتبها اليوم : د. عادل ضرغام إن قيمة الرجل - وقد ظهر أثرها بعد إطلالته فى ليلة الافتتاح فى وسائل التواصل - تتعلّق بالعمل المستمر الذى أسهم فى تشكيل منجز كبير راسخ . من سمات الثقافة المصرية، وبشكل قد يكون أكثر دقة يمكن الإشارة إلى أنه من سمات المصريين عامة على امتداد العصور والأزمنة، الامتنان لصاحب الأثر أو الدور فى حياتهم وفرحهم، وفى نصرهم وتحقيق مجدهم، فالمصريون يقدرون صاحب الأثر الذى يصل واضحا متخللا النظرة الجمعية، مترسّبا فى اللاشعور الجمعى متخطيا قصور النظرة، والاختلاف الجزئي، والحسد المستوطن فى صدور كثيرين ليصبح علامة فارقة فى التاريخ الممتد مؤسسا مكانة خاصة، ويحتل مساحة دائمة للمقارنة بصور السابقين ومنجزهم، ويتجلى نمطا أو علامة ضوء للقادمين من رحم الغيب فى سياقه الوظيفى الذين يتسلمون الراية بعده، وهو نمط ليس مطروحا للتقليد أو للسير على خطاه، بقدر ما هو حالة نجاح خاصة، يفترض من كل قادم بعده أن يخترع طريقته للوصول إلى الأثر ذاته بأساليبه الخاصة. أشير إلى هذا الدور حتى لو مرّت على هذا الدور أو ذلك الأثر سنوات عديدة، تصل إلى عقد أو عقدين، وأمام عينى طبيعة تلقى المصريين على اختلاف مشاربهم ظهور فاروق حسنى المرتبط بالفرح والإشادة والبهجة فى افتتاح المتحف المصري، فى مقابل الرفض المبطن أو الاستهجان أو التذمر أو الهمهمة لظهور شخصيات أخرى على تنوّع أسباب ظهورهم، ووجود تساؤلات عن قيمة ومشروعية وجودهم. وقد يرى البعض أن السبب فى تلك النشوة الجمعية بظهور فاروق حسنى فى حفل الافتتاح نابع من كون المتحف ارتبط بشخصه بوصفه صاحب الفكرة أو الحلم، لكن ذلك لا ينهض بمفرده فى تبرير هذا القبول الجمعى لحضوره. يبدو أن الأمر مرتبط بآلية عمل ممتدة، وقدرة على تحريك الخيوط، وتوزيع الأدوار على الشخصيات المحيطة به فى فترة وزارته، ولا يخلو الأمر من قدرة فى التعامل مع الآخر، ودرس وفهم آليات خطابه للتأثير فيه، للوصول إلى الهدف المأمول. لم أكن فى يوم من الأيام قريبا من فاروق حسني، والمرة الوحيدة التى رأيته فيها عن قرب، بعد حصولى على الدكتوراه، وبداية الحركة فى مستهل الألفية الجديدة، للبحث عن موضع قدم تحت الشمس، كانت بنادى القصة فى مقرّه القديم بشارع القصر العيني، أثناء حضوره تسليم جوائز نادى القصة. فقد عاينت وأبصرت طريقته فى تعامله مع المثقفين والأدباء، وأدركت تباسطه ومحبته وحدبه عليهم. ما أكتبه من تلويحة محبة يأتى من الوعى بالقيمة، وإدراك الأثر الذى أحدثه الرجل. فما أكتبه هنا كتابة متابع أو مراقب، يستطيع أن يعاين ويختزن ويقارن بين النماذج الفاعلة التى تمتلك قدرة على الحركة والتوجيه، والنماذج التى تترك الأمر يتحرّك بالقصور الذاتى فى فضائه المعهود. قيمة بدون تهافت قيمة فاروق حسنى قيمة ممتدة، لم تأت أو تتكوّن من انتهازية وقتية زمنية، تنتهى بانتهاء الحدث، فكثير من الشخصيات- وربما بعض الوزراء السابقين، وزراء الثقافة خاصة، وبعض تابعيهم- تشكلّت قيمتها من مواقف أغلبها مصنوع، وكثير منها متهافت مشدود للانتهازية والمصلحة. ومراجعة تاريخ بعض هؤلاء تكشف عن مشروعية هذه الرؤية. وخطر هؤلاء- فضلا عن صناعة الصراع والعمل على استمراره- يتمثل فى تمسكهّم بأسباب فشلهم الجاهزة، دون التدثر برؤية تقوّض هذه الأسباب الجاهزة والموجودة فعلا، وتتغلب عليها، فبدلا من العمل للتقدم والتجاوز، يظلّ الارتهان إلى الثبات والوقوف، ما داموا يتحركون مستندين إلى أسباب فشلهم. إن قيمة الرجل- وقد ظهر أثرها بعد إطلالته فى ليلة الافتتاح فى وسائل التواصل- تتعلّق بالعمل المستمر الذى أسهم فى تشكيل منجز كبير راسخ، لا يقارن إلا مع عدد قليل من وزراء سابقين للثقافة، وأهمهم بلا منازع ثروت عكاشة، وفى ظل تشابه وتوازى أثر كل منهما يحلو للكثيرين المقارنة بينهما، من حيث الفاعلية وحجم التأثير فى الثقافة المصرية، وطبيعة المشروعات الثقافية الكبرى التى قاما بها انطلاقا من الرؤية شديدة الخصوصية لكل واحد منهما، والإصرار المتواصل على العمل والإنجاز. كبير بين كبار المتابع لآلية عمل فاروق حسنى يدرك أن للرجل طريقته الخاصة فى اختيار معاونيه، ربما تكون طريقة مغايرة لكل الطرق والأساليب التى اعتمد عليها بعض وزراء الثقافة الذين تولّوا حقيبة الثقافة بعده أو قبله. فمعظمهم يعتمد على الشخصيات ذات الطبيعة البسيطة، وذات الأثر المحدود، لكنه فى كل محطاته يعتمد على الشخصيات القوية علميا وإداريا، ولا يخشى- لثقته بنفسه- من أى واحد منهم، فلديه قدرة على إرساء أسس التعاون بينهم، معتمدا على التحفيز المحسوب، ولهذا نجد أن كل الذين عملوا معه رؤساء للمؤسسات الثقافية يبذلون أقصى ما فى وسعهم ابتكارا وإضافة. إن نظرة متأملة إلى قيمة الشخصيات التى تعامل معها فى وزارته تكشف عن أنه كان كبيرا بين كبار، يكبر بهم، ويكبرون به، فليس هناك مجال للصراع بينه وبينهم، أو بين معاونيه أنفسهم، إلا ما يبذره هو من تحفيز عن قصد، للوصول إلى أقصى إفادة من دورهم ووجودهم فى تجويد العمل الثقافي. يمكن أن نستحضر فى ذلك السياق سمير سرحان، وفوزى فهمي، وجابر عصفور، وآخرين. فكل واحد منهم يشكل حالة معرفية وإدارية مختلفة عن الآخر، ويشكل قوة فى مجاله وسياقه، لكنه استطاع- أى فاروق حسني-بصفة القائد التى يتمتع بها أن يجمع ويوحّد بين هذه الكفاءات المعرفية والإدارية، ويؤسس نوعا من التواصل بين توجهاتها المختلفة بالرغم من قيمتها فى سياق تفردها. واختيار هذه الأسماء كاشف عن القوة من جانب، وعن القدرة فى الحركة والتوجيه، للوصول إلى وشيجة تعطى للعمل الثقافى فى وجوده الشامل وجودا متميّزا، وتصنع له هالة برّاقة. تماهى الرؤية والحركة الوصول إلى تلك المكانة والقدرة على السيطرة وتوحيد الاختلاف، لم يأت من فراغ، وإنما ارتبط بوجود رؤية كلية محرّكة، رؤية تستطيع أن تغيّر جلدها كل فترة زمنية منطلقة من انغماسها فى سياقها الحضاري، ومن استشرافها للمستقبل فى تسارعه المحموم. الرؤية التى تحرّك فى إطارها فاروق حسنى على امتداد مهمته الثقافية لم تعانِ من الثبات أو التصحّر أو التيبّس. يتجلى ذلك فى توجهاته وقراراته التى قد يظهر للمراقبين-فى بعض الأحيان- أنها مفاجئة وخارجة عن المتوقّع، لكنها فى الحقيقة مشدودة ومحمية برؤية دينامية تتطلّب فى كثير من الأحيان حلولا واستجابات سريعة غير معهودة أو تقليدية. الرؤية التى تقارب أية قضية أو مشكلة من أفق عال ونظرة مغايرة جزء من تركيبته وأسباب نجاحه، لأن هذه الرؤية توجّه نحو الكليات والنظرة الشاملة، فلا تشدّه الجزئيات البسيطة التى لو أصغى إليها، لجعلته- كما نرى عند كثيرين- يترك الأمر لحركة القصور الذاتى دون تدخّل أو فاعلية أو توجيه. وقد أعطت له الرؤية الدينامية المتحركة أفقا أكثر اتساعا من الآخرين، وكفلت له نوعا من السيطرة على الكبار الذين يدورون فى فلكه، بل وقوّضت حلم بعضهم فى الوصول إلى مكانه، لأنها تصنع نوعا من الحضور الفارق. يتخيل بعض المسئولين أن محاولة الاقتراب من المثقفين والكتّاب قد تكفل لهم وجودا واستمرارا، ولكن كل تلك المحاولات- وهى شيء جيد وجدير بالاحترام- لا تجدى بدون الاستقواء والتدثّر برؤية لافتة. فالرؤية الفارقة هى أساس كل عمل إدارى أو ثقافي، حتى فى ظل هيمنة وحتمية تطبيق القانون، لأنها تجلّيه بشكل خاص، وتجعله- أى القانون- مزدانا بأشياء إنسانية أخرى. الرؤية تشكل النواة الأساسية فى تشكيل قيمة فاروق حسنى واختلافه عن الآخرين. وأرجو أن يتمّ النظر إليه ليس بوصفه سبيلا للتقليد أو للسير على خطاه، وإنما بوصفه حالة مغايرة، تلهم الآخرين البحث عن سبيل أخرى تصل بهم إلى تلك المكانة دون تقليد .