د. سيد ضيف الله سلوى بكر مبدعة متميزة لها مشوار طويل في الإبداع القصصي والروائي ولها حضور بارز أيضًا في المشهد الثقافي المصري والعربي ومواقف معلنة من قضايانا العامة، كل هذا جعل منها قيمة إبداعية وثقافية وإنسانية لكل من تعامل مع نصوصها أو مع شخصها حيث تزول المسافة المفتعلة بين المؤلف والمؤلف الضمنى فيمكننا الإمساك بها في نصوصها في كثير من الأحيان مثلما يمكننا أن نمسك بشخوصها وقد تجسدت قيمًا تعبر عنها في حياتها العامة. الهم العام كلمة سحرية تفتح عالم سلوى بكر الروائي، ولا يمكن التغاضى عن تجلياته وحضوره القوى منذ أعمالها الأولى وحتى أحدث أعمالها، لكن الهم العام وحضوره فى الروايات والقصص ليس ضمانة بتميز الأعمال الأدبية، ولذلك كانت البصمة الخاصة بسلوى بكر فى تضفير الهم العام بهموم المرأة فى مجتمعها باعتباره همًا ثقافيًا تعى أنه أشد وطأة من كثير من الهموم السياسية الطارئة التى يسهل التمرد عليها بين حين وآخر. إن تضفير الهم العام بالبصمة الخاصة لسلوى بكر يخلق مع مرور الوقت ومزيد من التجارب ما يمكن أن نعتبره كود للتعارف الإنسانى على منظومة مشتركة من القيم الإنسانية العابرة للثقافات لاسيما الثقافات التى تنشد العدالة والسلام وتحسين جودة الحياة. أذكر عندما كنت أدرس لطلاب من ثقافات مختلفة رواية «مقام عطية» كنت مشغولا بمتعة السرد وحيوية شخصية «عطية هانم» وأستعيد مستمتعًا من خلالها العديد من الشخصيات التى تشبهها فى حياتي، لكن طلابى جاءوا بثقافاتهم إلى النص وأضاءوا لى كيف تتمرد الكاتبة على أعراف راسخة ناتجة عن تشابك الثقافة الذكورية مع عالم التصوف فتقدم بشخصية عطية هانم شديدة البسطة والحيوية والواقعية نموذجًا نسويًا للتصوف يمشى على الأرض. ويتأكد فى رواية «العربة الذهبية تصعد للسماء» أن لسلوى بكر طريقة عمل فى روايتها تمنحها عمقًا فكريًا فلسفيًا بقدر عنايتها بالبناء الفني، وتقنيات السرد المناسبة لكل عمل، لكن لا يغيب الحس التمردى لديها عن عمل من أعمالها لأنه مفتاح مهم فى كل رواية وكأنه غاية السرد فى أعمال سلوى الروائية والقصصية. فالعربة الذهبية التى تصعد للسماء هى عربة تتخيلها عزيزة قاتلة زوج أمها وعشيقها فى آن، وهذه العربة هى نتيجة خبل أصاب ذهن عزيزة الضحية والمضحية فى آن، وفى هذه الوضعية تصبح عزيزة نموذجًا فريدًا إنسانيًا ولكنه حقيقى ومتكرر بشكل كبير، وهنا تختار المؤلفة أن تقلب المائدة على الثقافة التى تجعل من الحكماء وذوى الحيثيات مصدرًا لتقييم الآخرين أخلاقيًا، إذ تجعل من عزيزة السجينة العشيقة والقاتلة هى التى تقيّم السجينات وتختار منهن من تصعد معها فى العربة الذهبية للسماء، لنكتشف مع الرواية رمادية العالم واختلاط الحقائق بنقائضها وكأننا فى معزوفة هجائية للواقع السائد وتعزفها الرواية لتمجد أبطالا وجوديين يتمسكون بأخطائهم وأحكامهم العادلة! ومثلما كانت سلوى بكر دائمة الحفاوة بكل صوت مهمّش فى الواقع اليومي، كانت شديدة الوعى عندما كانت تلعب مع التاريخ بروح المرأة المتمردة على ذكورية الكتابة التاريخية التى تهيمن على التاريخ الرسمي، فكان فعلها الإبداعى فى الوقوف على المناطق النازفة فى تاريخ الذات، ونقلها من الهامش الرسمى إلى المركز الإبداعى فى رواياتها التاريخية (البشموري، كوكو سودان كباشي، أدماتيوس الألماسي) إن نقد سلوى بكر لتاريخ الذات مسار واضح للتصالح بين الذوات المتعايشة فى مكان واحد، وذلك بفتحها باب السرد على المناطق النازفة فى تاريخ الذات وتنظيفها وتضميدها بتقديم سردية إنسانية تتسم بالموضوعية التى تليق بروائى عادل لا يهضم صوتًا سرديًا حقه فى الحضور ولا يشوّه آخر لانحيازات دينية أو عرقية! إن هذا الوعى المتمرد على الواقع السائد وعلى التاريخ المسكون بانحيازات عصبوية وجندرية ودينية كان إضافة حقيقية لتاريخ الرواية التاريخية فى العالم العربى فمن جهة دخلت سلوى بكر هذه المنطقة المهمة فى الكتابة بالبشمورى فى عام 1998 أى بعد رواية رضوى عاشور «غرناطة» بأربع سنوات فقط، وبالتالى هاتان روايتان رائدتان فى دخول المرأة الكاتبة لمنطقة الرواية التاريخية ذات التاريخ المعروف وتحولاته فى الزمن بتحولات الثقافة الحاكمة لأفق الروائيين ومساحة الحرية المتاحة للنظر فى التاريخ. ويمكن ملاحظة تميز غرناطة برؤية رضوى عاشور لثنائية (الذات والآخر) فى الماضى وامتدادتها فى الحاضر، بينما يمكن أن نقول إن سلوى بكر حفرت فى أعماق الذات ومناطقها النازفة لتقدم لنا الذات باعتبارها آخر، وراحت تضمد مكونات الذات برؤية حكيم يتسامى وينظر من علٍ ويرسم خطة للنجاة تكمن فى الهمس بأن يكون الجميع على قدرٍ من الإنسانية التى تتحقق بالعدالة والموضوعية مما يسمح بالتعايش وتضميد الجراح. لم يكن انشغال سلوى بكر بالحفر فى الذات عن المكون المهمّش فيها بمعزل عن انشغالها بعلاقة الذات بكل مكوناتها مع آخر حضارى ومدى تعقد الصورة فى ظل العولمة ومناخها الذى تتحول فيه الهويات الثلجية إلى سوائل بسرعة شديدة، وهنا يمكن أن نلمح فى روايتها (الصفصاف والآس) قدرتها على تخليص المفهوم المزعج (الآخر) من حمولاته الثقافية وتخليصه بهدوء من آثار الشيطنة الجاهزة له، لتتغلب رؤيتها الإنسانية وترصد عبقرية المصريين على المستوى الشعبى فى التعامل النفعى مع الحملة الفرنسية دون تفرنس أو تنازل عن الهوية أو حتى تساؤل مأزوم عن الهوية و فى الوقت نفسه رفض ومقاومة للاحتلال العسكرى استنادًا لولاء وانتماء راسخ مصدر اعتزاز وفخر. وهنا نلمح فى وعى سلوى بكر الروائى ثوابت إنسانية تطبقها بموضوعية وعدالة على الذات ومرآة الذات التى ترفض أن تسميها الآخر تجنبًا لشيطنته، لكن هذه الثوابت الإنسانية التى تبنى فكريًا وجماليًا عوالمها الروائية هى ما تخاف عليه من طوفان العولمة الذى يهدد كل ما هو إنسانى ولا يعطى فرصة للهويات بأن تتحاور حوارًا داخليا على مستوى مكوناتها ولا حوارًا على مستوى أكبر يشمل الذوات الحضارية بحثًا عن قواسم إنسانية مشتركة! روايات سلوى بكر من حيث طرق بنائها الفنى ومن حيث رؤيتها المتمردة على الواقع والتاريخ والتقاليد الثقافية الحاكمة لأفق الإبداع العربى تطرح سؤالا عن العلاقة بين التجريب والتمرد، وأظن أن تأمل المفهومين جيدًا قد يحرر المفاهيم من إجابات جاهزة تربط بين التجريب والشكل الفنى وأخرى تربط بين المواضيع أو المضمون وقيمة التمرد، فضلاً عن إجابات أخرى جاهزة تضع أشكال كتابة الرواية فى تراتبية من حيث الشكل أو الموضوعات! ثمة حاجة لتأمل خطط سلوى بكر السردية فى رواياتها التى تبلغ بها غاياتها المحددة والواضحة منذ روايتها الأولى، دون أن تتخلى عن قيم إنسانية تحركها فى تعاملها مع الماضى والحاضر ، الذات والآخر، ودون أن تتخلى عن غاية تغيير ما تستطيع أن تغيره فى الحياة لتكون على نحو أفضل. ثمة حاجة للنظر أيضًا فى مشروع سلوى بكر الروائى والقصصى بوصفه مشروعًا مؤهلا لتحقيق المصالحة بين المحلية والعالمية، فهو مشروع جدير بالعمل على خدمته من أجل تمكين القراء فى ثقافات أخرى على اكتشاف أنفسهم فيه. وأظن أن فوزها بجائزة البريكس هى بداية الطريق.