اقتحمنا عالم المتسولين وكشفنا أسراره وخباياه.. وقدمنا حصيلة يومين من الشحاتة لعملاق الصحافة مصطفى أمين تبرعا منا لليلة القدر ! . فى بداية حياتى المهنية بمؤسسة أخبار اليوم كنت مولعا بالمغامرات الصحفية وأثناء اجتماع قسم الحوادث بالأخبار اتفقت مع زميلتى العزيزة الصحفية الشابة صفاء نوار «مدير تحرير الأخبار ورئيس تحرير موقع صدى البلد الإنجليزى الآن» على القيام بمغامرة داخل «مملكة الشحاتين» لكشف أسرار عالمهم الخفى وخبايا ظاهرة التسول التى باتت تؤرق المجتمع وتشوه الصورة الحضارية لشوارع المحروسة. عرضنا الفكرة على الراحل العظيم الكاتب الصحفى جلال دويدار رئيس التحرير التنفيذى فى ذلك الوقت وأكدنا له عزمنا التنكر فرحب بالفكرة ومازحنى قائلا: طيب أنت صعيدى وشكلك ينفع متسول لكن صفاء إزاى؟! - يقصد أن صفاء نوار واحدة من الصحفيات الجميلات بالأخبار فكيف تصبح متسولة؟ قلنا له إننا اتفقنا مع الماكيير السينمائى الشهير الفنان محمد عشوب على أن يقوم بهذه المهمة ويحولنا إلى متسولين محترفين كما يفعل مع نجوم السينما وأنه وافق مشكورًا على القيام بالمهمة مجانا حبا فى صحيفة الأخبار. وبالفعل فى اليوم التالى كنا فى منزل الماكيير محمد عشوب بالمنيل وبرفقتنا الزميل المصور حسين القاضى -رحمه الله- وخلال 3 ساعات نجح الماكيير محمد عشوب بأنامله الساحرة فى أن يحولنى إلى متسول سبعينى مُشوه الوجه بفعل ماء النار وتحويل زميلتى إلى عجوز تعانى الفقر وشظف العيش. وبعد التقاط الصور لتوثيق لحظة البداية بدأنا مغامرة اقتحام مملكة الشحاتين يومين متتاليين يراقبنا عن بعد الزميل المصور ويلتقط بعدسته كل الأحداث التى تواجهنا. قمنا بالتسول فى معظم الأماكن المهمة بالقاهرة بداية من المنيل إلى كورنيش النيل ثم ميدان التحرير وأمام المتحف المصرى ثم شوارع وسط البلد وميدان العتبة وميدان رمسيس وأمام قسم الأزبكية وأخيرًا منطقة الأزهر والحسين والموسكى والسيدة عائشة والقلعة. لله يا محسنين !! «حسنة يا بيه.. نفحة يا هانم.. ربنا يخلى لك الست ويحفظ لك البيه.. ربنا يبارك فى أولادكم.. يا رب تنجح وتكون من الأوائل.. ربنا يوعدك بابن الحلال.. مريض وعاوز اتعالج.. معاى روشتة وعاوز أصرفها.. مسافر ومحفظتى اتسرقت وعاوز أجرة المواصلات.. جعان وعاوز اشترى سندوتشات.. يا رب تزور النبى وتصلى فى الكعبة.. إدينى حسنة ربنا يسترك». العبارات دى كانت كلمة السر وبعدها الفلوس نزلت علينا زى المطر وجيوبنا انتفخت بكل أنواع الفكة.. فهمنا اللعبة صح واقتحمنا الجلسات الرومانسية بكل غلاسة وعشان الحبيبة يخلصوا مننا كانوا يعطونا الحسنة بسرعة ويقولوا لنا مع السلامة.. وقفنا على أبواب المساجد أثناء خروج المصلين ولعبنا على وتر «الحسنات يذهبن السيئات» واكتشفنا أن المصريين طيبون جدا فى التعامل مع الشحاتين ولسان حالهم بيقول «كله بثوابه»!! فى عش الدبابير !! دخلنا عش الدبابير واقتحمنا مملكة الشحاتين.. هنا أوكار أولاد الشوارع والأطفال الهاربين من ذويهم والسوابق فى قضايا التسول والنشل، على طريقة فيلمى «المتسول» لعادل إمام و«العفاريت» لعمرو دياب. عالم غريب ومثير.. مناطق نفوذ المتسولين خط أحمر لا يجوز لمتسول دخول منطقة زميله.. «يا سلام ناس عندهم مبادئ»!! منهم من يمارس التسول بالطرق التقليدية، ومنهم من يفضل اصطناع العاهات واستغلال الأطفال الرضع، ومنهم من يبيعون المناديل والأذكار ومن يمسحون السيارات فى إشارات المرور، ومنهم من يستجدى عطف الناس حاملا أوراقا طبية عن إصابته أو أحد أفراد أسرته بمرض خطير أو إجراء عملية جراحية عاجلة.. فوجئنا ونحن نتسول فى ساحة مسجد الحسين بمتسولة تأتينا زحفا بعد أن خدعت الجميع بأن ساقها مبتورة.. صرخت فى وجهى قائلة: دى منطقتى امشى من هنا حالا وإلا مش هيحصل لكم طيب.. تعمدنا إطالة وقت الخناقة حتى يتمكن زميلى المصور من التقاط صور حية للمشاجرة التى تطورت إلى اشتباك بالأيدى وقلت للمتسولة انت رجلك مش مبتورة.. ردت طبعا مش مبتورة زى وشك المدهون.. أنت هتعملهم عليَّ.. غور من هنا وإلا هجيب لك ناس يقطعوك.. وبالفعل مشينا قبل ما ننضرب ونفس الموقف تكرر معنا فى ميدان رمسيس وشارع الأزهر لأن الأماكن دى مهرها غالي. ذهبنا إلى مقهى المتسولين.. هنا يتم توزيع الأدوار على المناطق واستقبال الوافدين الجدد.. هنا كل شخص له دور ومهمة.. البعض مهمتهم تأجير أطفال من أمهاتهم الفقراء مقابل 200 جنيه يوميا لاستخدامهم فى استجداء عطف المواطنين.. والبعض يستغلون أطفال الشوارع مقابل الإقامة والوجبات والمصروف اليومى وآخرون مهمتهم اصطناع العاهات وتوزيع الناضورجية لتنبيه المتسولين عند قدوم حملات الشرطة!! للأسف اكتشفنا أن ألاعيب المتسولين تنطلى على الكثيرين ممن يعتقدون أنهم أهل البر والإحسان والصدقات متناسين أن المحتاج الحقيقى يرفض احتراف التسول تصديقا للآية الكريمة «يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا» . صدق الله العظيم اكتشفنا أن التسول مثل الدجاجة التى تبيض ذهبًا دون كد أو عناء.. فالمتسول سواء كان رجلا أو امرأة أو طفلا أو فتاة لا يحتاج لإمكانيات أو خبرات فالأمر يتطلب فقط ملابس رثة وامتلاك القدرة على استعطاف المواطنين وابتزازهم بمعسول الكلام واتقان دور المسكنة.. بلغت حصيلتنا من التسول 220 جنيها فى يومين فقط وهو مبلغ فى ذلك الوقت لو تعلمون عظيم خاصة إذا علمنا أن راتبنا الشهرى كان 90 جنيها فقط.. عدنا إلى رئيس التحرير ووضعنا حصيلة التسول أمامه وكان سعيدا بنجاح مغامرتنا وطلب منا التبرع بحصيلة التسول لليلة القدر وخلال دقائق كنا أمام الراحل العظيم مصطفى أمين وتبرعنا بالمبلغ بعد أن استقبلنا بحفاوة وأشاد بجهدنا ومغامرتنا. تغليظ العقوبات بالتأكيد ظاهرة التسول خطيرة ومقلقة.. فالإحصائيات تشير إلى أن عدد المتسولين فى تزايد مستمر وأن مصر تأتى فى المرتبة الثانية عربيا بعد المغرب.. اكتشفنا أن القانون المصرى يجرم التسول والمادة الثالثة من قانون العقوبات تنص على معاقبة المتسول بالحبس خاصة إذا تصنع الإصابة بجروح أو عاهات أو استخدم أى وسيلة أخرى من وسائل الغش لاكتساب عطف الناس لكن العقوبات ليست رادعة. لذلك ارتفعت الأصوات مطالبة بضرورة عمل تعديل تشريعى لتغليظ العقوبات لمكافحة الظاهرة خاصة ضد من يستغلون الأطفال فى التسول. أيضًا لا بد أن ينظم رجال الدين بالأزهر ووزارة الأوقاف والكنيسة حملات توعية بالتنسيق مع وزارة الداخلية لمواجهة الظاهرة. مليونيرات التسول !! رغم أن التسول ظاهرة قديمة ضاربة بجذورها فى أعماق التاريخ إلا أنها تنامت فى العقود الأخيرة فى البلاد العربية وهناك مليون متسول ينهبون ثروات الناس رافعين شعار «البر والإحسان».. والآن نرى المتسولون الجدد من الزبالين على الكبارى وفى الميادين والشوارع الرئيسية ذات الاختناقات والكثافات المرورية وكلهم يحملون مقشات لا يستخدمونها وما خفى كان أعظم. قائمة مليونيرات المتسولين العرب تتصدرها اللبنانية فاطمة محمد عثمان التى بلغت حصيلتها من التسول 6 ملايين دولار ومجوهرات قيمتها 3 ملايين دولار وماتت وحيدة داخل سيارة مهجورة أخفت داخلها كل هذه الحصيلة!! وتضم القائمة الجدة عائشة التى قضت نصف قرن من عمرها فى التسول بمدينة جدة وبعد وفاتها تبين أنها تمتلك 3 ملايين ريال بالبنوك ومجوهرات قيمتها 3 ملايين ريال و4 عقارات فى الحى الذى تتسول فيه.. أيضا العم كامل متسول بنى سويف الذى كان يجوب البلاد بملابس رثة وتم اكتشاف أمره عندما دخل البنك يودع حصيلة التسول وتبين أن حسابه بالبنك به ثلاثة ملايين ونصف مليون جنيه بالإضافة إلى امتلاكه عمارتين. ولا يمكن أن ننسى متسولة قنا المليونيرة التى عثر داخل منزلها على مليون جنيه فكة وشحات البورصة الذى استثمر مليون جنيه فى البورصة والشحات السورى الذى احترف التسول بين أوساط اللاجئين السوريين وجمع 700 ألف دولار منهم خلال 3 شهور فقط فى النهاية نؤكد أن التسول جريمة فى حق المجتمع يجب مواجهتها بكل قوة وأن الوقوف ضد المتسولين «لصوص الصدقات» ضرورة حتمية.. ونقول للمحسنين إن العطاء والتصدق مسئولية فلا تساعد بأموالك فى اتساع مملكة الشحاتين وتأكد أن المحتاجين حقا لا يمدون أيديهم وتحسبهم أغنياء من التعفف فابحث عنهم وتصدق عليهم ولتكن صدقتك فى الخفاء لمن يستحق. هيّا بنا نرفع شعار «اعط المحتاج ولا تعط المحتال» للقضاء على ظاهرة التسول!!