انسحب البعض، بينما حرص كثيرون على متابعة فيلم المخرجة التونسية سارة عبيدى «كأن لم تكن»، ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائى، ليُثبت الفيلم قدرة الفن على استثمار أية تفاصيل.. حتى الملل! خارج مدار شخصيات العمل الرئيسية، سيطر بطلان أساسيان على أحداثه: الوحدة والملل، اللذان رأت المخرجة أنهما أشبه بقاتلين متسلسلين ينهشان البشر، كلماتها فسّرت عدم اعتمادها على الموسيقى التصويرية بشكل كبير، لأن الموسيقى من وجهة نظرى قد تساهم فى عملية غسيل سمعة لواقع مزعج، وتمنحه جاذبية لا يستحقها. البطلة عايدة تشبهنا، وتتقاسم معنا مللًا يلتهم أعمارنا، لأن الزمن أجبرنا على الدوران فى حلقات مُفرغة، منا من يرتشف الملل ممزوجا بالوحدة، وآخرون يتعاطونه مختلطا بنكهات تُنتجها علاقات مرتبكة، والغريب أنه لا يرحم حتى هؤلاء الذين أسعدهم الحظ بمحيط اجتماعى صحى، إنها الرتابة حينما تتوحّش، لا تُفرق بين موظفين يعملون فى شركة ترويج سياحى، مثل شخصيات الفيلم، وبين أطباء ومهندسين وإعلاميين يدورون فى فلكنا، فيمارسون حياتهم بقوة القصور الذاتى فقط بينما يعانون من الاحتراق الوظيفى. نجحت المخرجة فى استثمار الملل، الذى عانيتُ منه أحيانا خلال المشاهدة، بفضل جرعة مكثّفة من لغة فرنسية، تشترط الشركة الحديث بها، غير أن الحالة ذكرتْنى برواية «البطء» لميلان كونديرا، الذى نجح فى إثارة ضجرى بصفحات كاملة لا تتطور فيها الأحداث، ومع ذلك حرصتُ على استكمال القراءة، بعد أن قام الكاتب التشيكى بترويض جموحى كقارئ. فى كادرات مُكررة دارت أحداث الفيلم، أغلبها «داخلى».. نهارها يُنافس ليلها فى الجفاف. سكون مزمن حتى فى حال حركته، مع إشارات رمزية لقطار يتحرك نحو اللاشىء، ونباتات صبّار.. شوكها أكثر رقة من جروح حاضر تعيس، يجاهد فيه الكثيرون كى لا تتحوّل أحلامهم المجهضة إلى كوابيس واقعية. بعد نهاية العمل وجدتُ نفسى مضطراً إلى مديح الملل، لأنه تحوّل إلى دفقة إبداعية، ربما تُعجب البعض وينفر منها آخرون، لكنه الفن.. ولولا اختلاف الأذواق لبار الإبداع!