حين أعلنت هيئة الشارقة للكتاب اختيار اليونان ضيف شرف لمعرض الشارقة الدولي للكتاب 2025، لم يكن الحدث مجرد تكريم ثقافي لدولة ذات إرث عريق بل كان استعادة واعية لحوار ثقافي وحضاري طويل بين العرب واليونان.. حوار بدأ منذ آلاف السنين وما زال مستمرا في الفكر والثقافة والفنون واللغة. العلاقة بين العرب واليونانيين ليست وليدة العالم الحديث لكنها امتداد لتاريخ مشترك من التفاعل الفكري والمعرفي بين ثقافتين عريقتين. ففي الإسكندرية الهلنستية تلاقحت الفلسفة اليونانية مع علوم الشرق، ومنها انطلقت شرارة التفكير العقلاني الذي مهد لاحقا لنهضة علمية كبرى في العالم الإسلامي. ومع بيت الحكمة في بغداد بلغت تلك الصلات ذروتها حيث ترجمت أعمال أرسطو وأفلاطون وجالينوس إلى العربية، فاستوعبها فلاسفة العرب كالكندي والفارابي وابن رشد، وأعادوا قراءتها بروح جديدة صاغت معالم الفكر الفلسفي العربي والإسلامي وأسست لجسر ثقافي وصل إلى أوروبا لاحقا عبر الأندلس. أيضا تلك العلاقة لم تكن فلسفية فقط بل كانت لغوية، فالثقافتين اليونانية والعربية تقدسان الكلمة وتجدان في الأدب والفكر وسيلة لفهم الذات والآخر. ففي المسرح اليوناني وفي الشعر العربي يظهر الإنسان محورا للوجود.. يبحث عن معنى الحرية والجمال. كلا التراثين يشترك في نزعة تأملية تربط العقل بالروح وتحول الفن إلى أداة للتساؤل والحكمة ووسيلة الوصول إلى الحقيقة. إن اختيار إمارة الشارقة لدولة اليونان ضيف شرف المعرض يترجم من جانب آخر ما تمثله الشارقة في الثقافة العالمية كونها منارة عربية تجمع بين التراث والحداثة، تعيد إحياء هذا الحوار الثقافي العربي اليوناني في لحظة يحتاج فيها العالم إلى لغة الثقافة أكثر من لغة السياسة. فالمعرض لا يكتفي بعرض الكتب فقط بل يفتح فضاء حيا للقاء الكتاب والمفكرين والفنانين حيث تمتزج الذاكرة المشتركة برؤى المستقبل. وما رأيته في حجم الكتب المترجمة من اليونانية إلى العربية والعكس في جناح اليونان خير دليل على سعي اليونان مع الجانب العربي نحو مزيد من التعاون الثقافي والتلاقي الفكري. والحقيقة فيما أراه أنا شخصيا وغيري من المهتمين بحوار الحضارات أن وجود اليونان ضيف شرف هو تذكير بأن الثقافة لا تعرف الحدود ..فالثقافة جسر يربط العقول والقلوب. فهذه المشاركة اليونانية في واحد من أكبر المعارض العربية للكتاب ليست مجرد احتفاء بالماضي بل دعوة لتأسيس تعاون ثقافي جديد في مجالات الأدب والمسرح والفنون لنواصل ما بدأه الأجداد بروح معاصرة. فهنا في الشارقة نحن لا نستحضر التاريخ فحسب بل نكتب فصلا جديدا في قصة الإنسان الباحث عن المعرفة.