كان المشهد مفزعًا بكل تفاصيله.. رضيعة لم تتجاوز الشهور الأولى، ملامحها الصغيرة ما زالت تحمل براءة الحياة الأولى، لكن جسدها الهشّ لم يحتمل قسوة أب قرر أن ينتقم من «جنسها» قبل أن تتعلم حتى معنى الحياة. في لحظة شيطانية، تحول الأب من حامٍ لطفلته إلى قاتل لها، بعدما سيطر عليه فكر عقيم يرى أن ولادة البنات «عار» وأن إنجاب الأنثى وصمة تقلل من رجولته أمام الناس. في أروقة المحكمة، كانت القصة تروى بصوت يقطّع القلب؛ تفاصيل جريمة لم يشهد مثلها الضمير الإنساني إلا في عصور الجهل الأولى، حين كانت الطفلة تُدفن حية لأنها وُلدت بنت.. لكننا اليوم في القرن الحادي والعشرين، وما زال البعض يدفن البنات، لا تحت التراب، بل بيد من لحم ودم يفترض أن تكون الأمان .. تفاصيل مأساوية عن تلك القصة نسردها في السطور التالية. في صباح هادئ من أيام شهر يوليو 2023، كانت الطفلة «سما» تضحك ببراءة طفولية داخل بيتها الصغير بإحدى قرى مركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة.. لم تعلم أن القدر يخبئ لها مأساة لا تُكتب حتى في أكثر القصص قسوة. اقترب منها والدها، لا ليمسح على رأسها أو يضمها لصدره، بل ليرتكب أبشع فعل يمكن أن يصدر عن إنسان؛ رفع قدميه فوق رأس طفلته الرضيعة، وقفز عليها بكل ما يملك من ثقل، دهسها حتى انكسرت عظامها، فقط لأنها «أنثى» لا «ذكر»! سكنت الضحكات، وتحول البيت إلى صمت مرعب، وسُجل في ذاكرة القرية اسم جديد ضمن صفحات الجريمة... اسم الأب الذي قتل براءته بقدميه. قسوة وجريمة اعتاد الأب الذي يدعى محمود، إساءة معاملة زوجته منذ زواجهما، ويُحملها ذنب إنجاب البنات، اعتاد تعنيفها وضربها، ورفض في البداية تسجيل ابنته الصغيرة «سما» في السجلات الرسمية. وفي يوم الحادث، انفجر الأب في نوبة غضب، واستفرد بالطفلة داخل الصالة، وأقدم على دهس رأسها بقدميه مرات عدة حتى فارقت الحياة. التحريات أكدت أن الزوجة حاولت الاستغاثة بالجيران، لكن بعد فوات الآوان.. نقلت الطفلة جثة هامدة إلى المستشفى، وتحرر محضر بالواقعة، وأُحيل المتهم إلى محكمة جنايات دمنهور. في مشهد مؤثر داخل قاعة المحكمة، وقف المستشار عمرو المعتصم، ممثل النيابة العامة، ليُلقي مرافعة وصفها الحضور بأنها واحدة من أقوى المرافعات الإنسانية التي شهدتها قاعات العدالة في السنوات الأخيرة. بدأ حديثه بعبارة دوّت في القاعة: «إن الذنب لا يُنسى، وإن البر لا يبلى، وإن الديّان لا يموت، فكما تدين تُدان، وبالكيل الذي تكيل به تُكال.. من أحلك سوداوات النفس، ومن أظلم غياهب الضلال، خرج هذا الأب المفسد في الأرض. لم يكتفِ بالعنف ولا بالسباب، بل دهس رأس ابنته الرضيعة، تلك التي حرم الله قتلها، بقدميه، فقط لأنها أنثى». وبدأ المستشار عمرو المعتصم مدير نيابة كوم حمادة مرافعته باستعراض تفاصيل مقتل الطفلة سما، على يد والدها، قائلا: «تبدأ وقائع دعوانا منذ زمن بعيد حين تعرف القاتل على زوجته أميرة، فقبلت به زوجًا ترجو حسن المعاشرة وأن تنال رزقها من لين وأمان وبنين يكونوا لهما للحياة زينة، اختارت لمنزل أهله بيتا مستبشرة فيهم حسن الجوار وطول العمر والسيرة، وبمرور الأيام ظهر القاتل على حقيقته، سوء معاملة وضرب وتعنيف دون سبب واضح فعاشت حياة ذليلة، بعد مرور ثلاث سنوات ترجو صلاح حاله رٌزقا بنورا الصغيرة، أيلين قلبه بابنته ويحمد محمود ربه أن رزقه بالبنين لا والله، فالله لا يغيرُ ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإليكم ما في نفسه من تلوث فكر وما يحمله من نفس مريضة فلمشيئة الرحمن أن رزقه بالإناث دون الذكور ولهذا السبب حمل لزوجته الضغينة، فسباب لزوجته ومعايرتها بزوجة أخيه». وأضاف ممثل النيابة العامة: «بعد سنتين ونصف حملت الأم في ابنتها سما، فضجر الأب ثانية فانهال عليها بالضرب والتوبيخ هي وابنتها نورا أملا أن تموت في بطنها إلى أن نزل عليها الماء، فذهبت والصغيرة لأبيها طالبة المكوث ليحملوا عنها بما في الحمل من عناء، ما أن ولِدت سماء وبعد رفض الأب إثباتها بسجلات الدولة لبغضه إياها لأنها أنثى، وبضغط من الأهل والأقرباء سجلها ورجعت الأم للعيش بذات المنزل الأسود وهي مُدركة أنها ستعيش مُهانة وذليلة ولن تلقى الهناء، وذلك لإنجابها الإناث بمشيئة الرحمان لا بيدها وأنها ولهذا ستلقى ثانية ذات الجزاء، ولإلحاح من والدها لضيق حالة وعدم قدرته على الإنفاق رفض فكرة الطلاق، ولتهديد القاتل لزوجته مرارا بقتل الصغار ولأنها لم تر رجاء أو حماية من الكبار». وأوضح أنه يوم الواقعة في الثامن والعشرين من الشهر السابع من عام 2023، استفرد القاتل بنجلته بصالة المنزل بشر يفكر، وكانت المسكينة مطمئنة ظانة الأمان في بيتها، إلا أن شرًا في عقل أباها اختمر، ليس بوسوسة الشيطان إنما، تنصل منه الأخير من سيل العبر، سأقتلُ الغلامةَ فهي ليست بفتى، يعينني على جمع الجواهر والدراهم والدرر، فأنقض الخائنُ يدهس رأسها». وختم مرافعته بعبارة مؤثرة: «دهس رأس ابنته التي كانت تظن الأمان في صدره، لا في حائط أو أرضٍ باردة، وبهذا الفعل خسر دنياه وآخرته، وجعلنا أمام أب فقد إنسانيته قبل أن يفقد عقله». وطالبت النيابة بتوقيع أقصى عقوبة ممكنة على المتهم، مؤكدة أن ما ارتكبه لا يندرج تحت القتل العمد فحسب، بل هو جريمة فساد في الأرض واغتيال للرحمة في قلب الأبوة. بعد عدة جلسات استمعت خلالها المحكمة إلى مرافعات النيابة والدفاع، قضت محكمة جنايات مستأنف دمنهور، الدائرة الثانية، برئاسة المستشار عبدالرحيم علي عبدالعال، وعضوية المستشارين محمد حسن البواب، وكارم محمود عطية، وحسن عادل سباق، بتأييد الحكم الصادر بحبس المتهم 10 سنوات، بعد رفض استئنافه على الحكم الصادر ضده من محكمة أول درجة في شهر مارس الماضي. د.أحمد فخرى: حالة مرضية فى التفكير والسلوك لا يعفيه من العقاب ..ولكي نفهم سيكولوجية ذلك الأب الذي ما زالت تسيطر عليه أفكار بالية تعتبر إنجاب البنات مسئولية الزوجة وحدها، وأن قدوم الأنثى إلى الحياة لعنة، تواصلنا مع الدكتور أحمد فخري، أستاذ علم النفس الإكلينيكي ورئيس قسم العلوم الإنسانية بجامعة عين شمس، الذي قال: "الفكر الجاهلي ما زال يتأصل في بعض الشخصيات حتى اليوم، فالتربية الذكورية وفكرة تعظيم دور الذكر والتفرقة في التعامل بين الجنسين هي التي جعلت هذا الأب يفكر بهذه الطريقة". وأوضح الدكتور أحمد فخري؛ أن ما حدث ليس ظاهرة، بل حالة مرضية في التفكير والسلوك، مشيرًا إلى أن "التقدم والتعليم والإنترنت لم يغيّر عقول الجميع، فبعض النفوس المريضة تظل أسيرة مفاهيم الغيرة والمقارنة وعدم الرضا". وأضاف: "في علم النفس، نطلق على هذه الصفات أمراضًا أخلاقية وليست نفسية، لأنها تنشأ من أسلوب التنشئة الذي تلقاه الفرد في طفولته، فحين يكبر، يبدأ في مقارنة نفسه بغيره، كما فعل هذا الأب القاتل الذي لم يحتمل فكرة أن يُخلّد اسمه عن طريق إنجاب الإناث، وبدأ يقارن بينه وبين شقيقه". وتابع يقول: "هذه الشخصيات تعاني خللًا في منظومة القيم والمفاهيم، فتصبح تصرفاتها انعكاسًا لأفكار منحرفة تُفضّل الذكر على الأنثى، وتمارس التمييز ضد المرأة، رغم أن المجتمع في الأساس يرفض هذا الفكر، والمرأة لها مكانة كبيرة منذ قديم الأزل، فهي رمز للحياة والعطاء والإنسانية". وأضاف: "مسئولية إنجاب الذكر أو الأنثى علميًا تقع على الرجل وليس المرأة، وهنا يأتي دور المؤسسات التوعوية في تصحيح المفاهيم الخاطئة؛ البداية تكون من الأسرة، من خلال تربية الأبناء على عدم التفرقة بين الولد والبنت، لأن ذلك هو أساس جيل سوي يحترم الآخر، ويقي المجتمع من أمراض مثل التحرش والتنمر". واختتم حديثه مؤكدًا أهمية الأدوار المتكاملة في التغيير، فقال: "الإعلام عليه دور كبير في تسليط الضوء على ضرورة تعديل الموروثات الثقافية الخاطئة، والتعليم والمناهج المدرسية يجب أن تُرسّخ قيم المساواة، إلى جانب الدور الديني الذي يبرز مكانة المرأة في المجتمع وأهميتها في بناء الأسرة والحياة". اقرأ أيضا: غداً.. استئناف محاكمة المتهمين بقتل تاجر الذهب برشيد