فى كل عام، حين تُضاء أنوار مهرجان القاهرة السينمائى الدولي، تُكتب صفحة جديدة فى دفتر الفن المصرى حيث تحتل السينما والمسرح صفحاته المليئة بالمواهب على مر العصور. ذلك الدفتر الذى لم ينقطع سرده منذ أن عرفت مصر السينما بوصفها لغة راقية من لغات الروح، فمهرجان القاهرة - أقدم مهرجان سينمائى دولى فى الشرق الأوسط - ليس مجرد منصة للعرض، بل هو إعلان ريادة ثقافية ونقطة انطلاق للفنانين. تعرف القاهرة كيف تحرس الوعى وتصنع الذاكرة، وفيها تتقاطع جغرافيا الفن مع خرائط التأثير لتصوغ هوية عربية مرئية قادرة على مواجهة ومنافسة مخرجات العولمة. لم يكن غريبًا أن تبدأ السينما رحلتها فى مصر مبكرًا جدًا؛ فالفن وجد فيها بيته الطبيعي، فمنذ العرض السينمائى الأول بالإسكندرية عام 1896، على يد الفرنسيَّيْن الأخوين لوميير، وحتى تأسيس استوديو مصر على يد طلعت حرب، تشكّلت ملامح المشروع السينمائى الوطنى الذى لم ينسخ تجربة أحد، بل ابتكر لغته الخاصة. رأى المصريون فى السينما وسيلة لتسجيل نبض الشارع ووجوه الناس، وطريقة لرصد الأحوال وتسجيل مشاعرهم مع كل مرحلة زمنية، نقوش مصورة تتطابق مع نقوش المعابد فى حضارتهم القديمة. فى مصر تحوَّلت الكاميرا إلى أداة من أدوات النهضة، تكمل ما بدأته الصحافة والمسرح والجامعة فى بناء الوعى العام. تمتد حكاية السينما المصرية عبر قرن كامل، تشكَّل خلاله وجدان المصريين وتحوَّلت إلى سجل اجتماعى وسياسى وثقافى لا مثيل له فى العالم العربي. بدأت الرحلة مع مرحلة الأبيض والأسود التى أرست قواعد الصناعة؛ من زينب (1930) أول فيلم روائى طويل، إلى أعمال محمد كريم وكمال سليم، لترسّخ لغة سينمائية بسيطة لكنها آسرة، تعتمد على حكاية الإنسان المصرى فى صراعه مع الواقع. ثم جاء العصر الذهبى فى الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، حين تحوَّل استوديو مصر إلى مصنعٍ حقيقى للنجوم. ظهرت روائع مثل دعاء الكروان، الناصر صلاح الدين، باب الحديد، الأرض، وخلق المبدعون نبرة سينمائية عربية مستقلة تجمع بين الرومانسية والواقعية والتحليل الاجتماعي. وبعدها توطدت العلاقة بين الفن والدولة، ولعبت السينما دورًا أساسيًا فى توثيق التحولات السياسية الكبرى؛ من ثورة 1952 فى أفلام مثل رد قلبي، إلى نقد السلطة فى شيء من الخوف . وفى السبعينيات والثمانينيات، برز جيل جديد ترك بصمته العميقة عبر سينما محمد خان وداود عبد السيد، حيث قدّم خان واقعيته الحسية فى أعماله التى أعادت قراءة الإنسان المصري، بينما نسج داود عبد السيد عالمًا إنسانيًا شفيفًا أعاد تعريف العلاقة بين الإنسان والمدينة والقدر، وصولًا إلى تفكيك السردية الإخوانية المتطرفة بشجاعة فى أعمال وحيد حامد. أما النجوم الذين شكّلوا الوجدان المصرى - مثل فاتن حمامة، عمر الشريف، سعاد حسني، شادية، محمود مرسي، أحمد زكي، محمود عبد العزيز وعادل إمام ويسرا- فقد تجاوزوا الشاشة، وصارت وجوههم جزءًا من ذاكرة الأمة وروحها الثقافية. هكذا أصبحت السينما المصرية ذراعًا من أذرع الوعى الوطني، وامتدادًا لمنظومة ثقافية عميقة جذورها فى الحضارة وممتدة فى الزمن. لم تكتفِ مصر بصناعة أفلام، بل صنعت البصمة نفسها: مدرسة سينمائية عربية شاملة، لها لغتها الخاصة فى السرد والإخراج والتصوير والتمثيل، بصمة يتعرف عليها المشاهد العربى قبل أن يقرأ العناوين، أفلام مثل العزيمة والمومياء ليست مجرد أعمال خالدة، بل هى مرايا عميقة شرّحت البنية الاجتماعية والسياسية، وكشفت ما تحت السطح بجرأة وصدق. لقد امتلكت السينما المصرية القدرة على التقاط المشهد التشريحى للمجتمع، وتحويله إلى خطاب بصرى يربط بين الفن والحقيقة، بين الخيال والهمّ العام، بين الصورة وحركة التاريخ. ولأن الفن لا ينفصل عن الناس، كانت السينما المصرية فى صدارة مواجهة قضايا المجتمع. اقتربت من الفقر، والطبقية، والبيروقراطية، والهوية، والمرأة، والمدينة، والدولة، والزيادة السكانية دون خوف أو تردد، تحدّثت عن الظلم الاجتماعى فى الأرض، والاغتراب فى الكيت كات، لم تكن تمثل فقط، بل كانت تخوض معركة الإدراك، وتضع المجتمع أمام صورته الحقيقية. كانت السينما — وما تزال — واحدة من أهم أدوات تشريح الوعى الجمعى فى مصر: تفصح، توثّق، وتفتح أبواب الأسئلة التى يحتاج إليها المجتمع. ورغم المنافسة العالمية، لا تزال السينما المصرية تحتفظ بموقعها الطبيعى فى المنطقة: مرجعيةً لا بديل عنها، وتجربةً لا يمكن القفز فوقها، وأرشيفا فنيا هو الأكبر والأغنى والأكثر انتظامًا فى العالم العربي، واعمالها تُدرَّس فى معاهد السينما، وتُعرض فى المهرجانات الكبرى، وتبقى هى المصدر الأول لتكوين الذائقة العربية. إن موقع مصر من السينما ليس موقع دولة تقدّم أفلامًا، بل موقع دولة تؤسس ذاكرة، وتعيد تعريف الفن فى الإقليم. ومثلما واجهت السينما المصرية قضايا المجتمع، واجهت أيضًا الظاهرة الإرهابية بشجاعة ووعى نادرين. منذ التسعينيات، دخل الفن إلى ساحة ممانعة التطرف، فقدم «الإرهابى» قراءة نفسية دقيقة للعقل المتشدد، وقدم «الإرهاب والكباب» تفكيكًا ساخرًا للعلاقة بين القهر والإرهاب، بينما كشف «دم الغزال» عن جذور الظاهرة فى الفقر والحرمان، وتناول «مولانا» لعبة الاستغلال الديني. لم تسلم السينما عبر عقود من أزمات إنتاجية قاسية هزّت بنيانها؛ من نقص التمويل وارتفاع تكاليف المعدات، إلى تقلّص دور الاستوديوهات وهجرة الكفاءات وغياب منظومة توزيع عادلة، ومع ذلك ظلّت السينما المصرية صامدة تصنع أفلامها بإصرار وتبتكر حلولها بمرونة. واليوم، ومع تصاعد تحديات العصر الرقمى ومنافسة المنصّات، تحتاج الصناعة إلى خطة إنتاج وطنية حديثة تُنشئ صندوقًا مستدامًا للتمويل، وتعيد تحديث الاستوديوهات، وتضع سياسة توزيع منصفة، إضافة إلى دعم التحوّل الرقمى عبر منصّات عرض محلية قوية وتقنيات إنتاج متقدمة تمكن السينما المصرية من مواصلة دورها التنويرى واستكمال مسيرتها الابداعية . ستظل السينما المصرية، بكل ما حملته من ذاكرة ورموز وأحلام، هوليوود الشرق، وصانعة النجوم، وصاحبة الإنتاج المتنوع، والبلد الذى لا تنطفئ شاشات عرضه، وكتّابها ونجومها أصحاب خيال لا ينضب، وروح تعرف أن الفن ليس ترفًا، بل قوة ناعمة قوية، تحرس العقل وتفتح الطريق أمام المبدعين، حاملةً فى يدها سردية الضوء وجمال الصورة.