لم تكن زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى شرم الشيخ للمشاركة في "قمة السلام" حدثا بروتوكوليا فحسب، بل فصلًا جديدا في سجل طويل من العلاقات المصرية–الأمريكية التي تتقاطع فيها الجغرافيا مع السياسة، والتاريخ مع المستقبل. الزيارة التي تأتي في مستهل ولايته الحالية تعكس عودة الحضور الأمريكي المباشر إلى مصر بعد سنوات من تراجع الأدوار وتبد ل الأولويات في واشنطن. لكنها في جوهرها تؤكد معادلة ثابتة لم تتغير منذ أكثر من ثمانية عقود: أن القاهرة هي بوابة الشرق الأوسط، ولا يمكن لأي إدارة أمريكية أن تصوغ سياسة فعالة في المنطقة من دون المرور عبرها. منذ أن وطأت قدما الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت أرض مصر عام 1943، تحوّلت القاهرة إلى ساحة القرار في لحظات العالم الحرجة. كانت زيارات روزفلت الثلاث خلال الحرب العالمية الثانية كفيلة بتثبيت موقع مصر كمنصة دولية للتشاور وصناعة التحالفات. ◄ اقرأ أيضًا | من المغازلة للإحراج.. مواقف غريبة تجمع ترامب بالقادة في قمة شرم الشيخ فعلى أرضها انعقد مؤتمرا القاهرة الأول والثاني، ومنها انطلقت صيغة التنسيق الأمريكي–البريطاني–الصيني ضد قوى المحور، وفيها أيضًا التقى روزفلت بالملك عبد العزيز آل سعود على متن المدمّرة "كوينسي" في قناة السويس، في لقاء غيّر خريطة التحالفات في الشرق الأوسط لعقود. ثم جاءت زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون عام 1974 لتدشن مرحلة جديدة من "الشراكة الواقعية" بين القاهرةوواشنطن، بعد سنوات من الجفاء السياسي. وبين عامي 1978 و1979، رسخ الرئيس جيمي كارتر هذه الشراكة حين رعى معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، لتصبح واشنطن شريكا مباشرا في صياغة مستقبل المنطقة. وفي التسعينيات، استمرت القاهرة في قلب السياسة الأمريكية. زارها جورج بوش الأب عام 1990 لتنسيق المواقف خلال أزمة الخليج، بينما كان بيل كلينتون الأكثر حضورا بزياراته الأربع بين 1994 و2000، والتي شهدت انعقاد قمم "صانعي السلام" في شرم الشيخ ومناقشات التسوية الفلسطينية–الإسرائيلية، في لحظة بدت فيها مصر منصة لا غنى عنها في إدارة ملفات الشرق الأوسط. ومع مطلع الألفية، حافظت شرم الشيخ على مكانتها كعاصمة للدبلوماسية الهادئة. ففي 2003 حضر جورج بوش الابن "قمة البحر الأحمر" لدعم خريطة الطريق، ثم عاد عام 2008 في لقاء موسع مع الرئيس مبارك خلال المنتدى الاقتصادي العالمي. وفي 2009 أعاد باراك أوباما الزخم للعلاقات بزيارته التاريخية إلى جامعة القاهرة، حين أطلق من هناك خطاب "بداية جديدة" مع العالم الإسلامي. أما جو بايدن، فاختار شرم الشيخ عام 2022 لحضور قمة المناخ "COP27"، ليؤكد استمرار إدراك واشنطن لموقع مصر كمحور في ملفات البيئة والسياسة والأمن الإقليمي. واليوم، ومع وصول دونالد ترامب مجددا إلى شرم الشيخ، تتجدد معادلة التاريخ ذاتها: أن القاهرة ليست محطة دبلوماسية عابرة، بل ركيزة التوازن الأمريكي في الشرق الأوسط، ومركز اللقاء بين رؤى متباينة تبحث دائمًا عن نقطة سلام. فمن "كوينسي" إلى "قمة السلام"، ومن روزفلت إلى ترامب، تظل مصر الثابت الوحيد في معادلة متغيرة. لا تسوية تكتب في الشرق الأوسط دون أن تمر من هنا، من قلب الصحراء التي صارت مدينة عالمية اسمها شرم الشيخ، حيث يتجدد الخطاب، وتتجسد السياسة في أبهى صورها الدبلوماسية.