قابلنا جميعًا قرار الرئيس بزيادة رواتب المعلمين بالتحية والفرح والثناء، فهو يعكس اهتمام القيادة السياسية بالتعليم ووعيها العميق بأهمية دور المعلم المؤمن برسالته. ومع هذا الاهتمام الحكومى الصادق كسبيل حقيقى لبناء جيل واعد من أبناء الوطن، تبرز مفارقة تستحق التوقف عندها طويلًا. فبينما تنفق الدولة مئات المليارات على التعليم، تدفع الأسرة تقريبًا 500 جنيه مصاريف للمدرسة الحكومية، فالتعليم حق إنسانى ودستورى يجب أن تكفله الدولة - إلا أن المفارقة تكمن فى أن الأسرة نفسها تضطر لدفع نحو 5000 جنيه فى المتوسط «شهريًا» للدروس الخصوصية و«السناتر»، وكأن المواطن يشترى التعليم مرتين! فيدفع للدولة «سنويًا» عشر ما يدفعه «شهريًا» للسوق الموازى للتعليم. والأرقام الرسمية لجهاز التعبئة العامة والإحصاء تصرخ بأن سوق الدروس الخصوصية يبتلع 247 مليار جنيه سنويًا! أليست هذه أغرب «صفقة تجارية» فى التاريخ؟. فهل يمكن أن يكون هناك حلّ لهذه المعضلة؟ ربما تشريع صارم قابل للتنفيذ أو إنشاء إدارة خاصة فى وزارة الداخلية لمكافحة «تجارة الدروس الخصوصية وظاهرة السناتر» التى تنتشر فى كل أحياء المحروسة مثل الوباء؟ الذى لا تقل خطورته عن تجارة المخدرات فمتعاطى الدروس الخصوصية تقريبًا هو نفس عدد التلاميذ. لقد تأخرنا كثيرًا فى التصدى لهذه الظاهرة المتفشية، حتى توحشت وباتت المدارس مجرد مقرات للحضور والانصراف. فالمعركة الحقيقية هى استعادة التعليم من سطوة السناتر التى حولت العملية التعليمية إلى سلعة فاخرة لمن يستطيع الدفع! الجميع يتحرك نحو الرقمنة، والدولة تُصرّ عليها إصرارًا محمودًا فى كل المجالات، ومنها التعليم، ومن مظاهرها تحويل الطلاب من مدرسة إلى أخرى عبر «السيستم». فكرة رائعة -نظريًا- أليس كذلك؟ لكن الواقع يقول غير ذلك! فبدلًا من أن يملأ ولى الأمر استمارة إليكترونية وهو فى بيته، ويظن أن الأمر قد انتهى ولكن هيهات!! فهنا تبدأ رحلة «الطواف» بين المديريات والإدارات التعليمية، بعدد لا يقل عن عشر زيارات! نحن لا نحتاج إلى «سيستم إليكترونى» فقط، بل إلى عقلية إليكترونية أيضًا! نحتاج إلى موظفين يدركون أن رواتبهم تأتى من ضرائب هذا الشعب، وأن دورهم هو «الخدمة» لا «التعذيب». ولا يضطر المواطن داخل الإدارات التعليمية، للبحث عن «مدام...» التى تقضى نصف وقتها فى الثرثرة مع جارتها، أو ذاك الذى يقضى وقته على المقهى المقابل لمبنى الإدارة، أو المسئولة التى تتعامل مع مكتبها الصغير ك «غرفة خاصة موصدة»، لا يدخلها أحد، ولو ارتفعت أصوات أولياء الأمور استجداءً لظهورها، أطلت من شباك صغير منزعجة من «قلة الذوق» لعدم احترام خصوصيتها! كل هذا يحدث رغم وجود طابور ينتظر توقيعًا أو ختمًا قد يغيّر مصير تلميذ. يا سادة، اتقوا الله فى الناس! ولا تحملوا الحكومة أمام المواطنين وزر أفعالكم، فالإصلاح الإدارى لا يبدأ ببرامج الكمبيوتر فحسب، بل بضمير حى.