خالد محمود يكتب : بين محاولات متفرقة و غياب الفيلم الملحمى .. هل أنصفت السينما المصرية حرب أكتوبر ؟

لا ‬أخفي ‬أنني ‬في ‬كل ‬عام ‬يحل ‬فيه ‬السادس ‬من ‬أكتوبر، ‬أجدني ‬أمام ‬مشهدين ‬متوازيين: ‬الأول، ‬الفخر ‬الوطني ‬الجارف ‬الذي ‬لا ‬يفارق ‬المصريين ‬وهم ‬يسترجعون ‬لحظات ‬النصر ‬الخالد ‬في ‬1973، ‬والثاني، ‬دهشتي ‬المتجددة ‬من ‬غياب ‬عمل ‬سينمائي ‬كبير ‬يخلّد ‬هذه ‬الملحمة ‬كما ‬تستحق.‬
كصحفي ‬ومتابع ‬للشأن ‬الثقافي، ‬كثيرًا ‬ما ‬طرحت ‬هذا ‬السؤال: ‬لماذا ‬لم ‬تنتج ‬السينما ‬المصرية ‬حتى ‬الآن ‬فيلمًا ‬ضخمًا ‬عن ‬حرب ‬أكتوبر؟، ‬هل ‬كان ‬ينقصنا ‬التمويل، ‬أم ‬الشجاعة ‬الفنية، ‬أم ‬الإرادة ‬السياسية؟،
هل ‬ما ‬زالت ‬الفرصة ‬قائمة ‬لصناعة ‬عمل ‬سينمائي ‬يعيد ‬لهذه ‬الحرب ‬مكانتها ‬في ‬الذاكرة ‬البصرية ‬للأمة؟.‬
في ‬هذا ‬المقال، ‬أحاول ‬أن ‬أقترب ‬من ‬الإجابة، ‬لا ‬من ‬موقع ‬النقد ‬فقط، ‬بل ‬من ‬موقع ‬المحبة ‬والانتماء، ‬إيمانًا ‬بأن ‬هذه ‬الحرب ‬التي ‬أعادت ‬لمصر ‬كرامتها، ‬وتستحق ‬أن ‬تُروى ‬للأجيال ‬كما ‬كانت: ‬ملحمة ‬لا ‬تُنسى.‬
محاولات ‬فنية ‬على ‬استحياء
في ‬السنوات ‬التي ‬أعقبت ‬الحرب ‬مباشرة، ‬ظهرت ‬بعض ‬المحاولات ‬السينمائية ‬لتوثيق ‬الحدث، ‬لكنها ‬بدت ‬متسرعة، ‬متأثرة ‬بزخم ‬الانتصار، ‬دون ‬التعمق ‬في ‬خلفيات ‬الحرب ‬أو ‬تفاصيلها ‬العسكرية ‬الدقيقة.. ‬واكتفت ‬بمحاولة ‬أن ‬تحفظ ‬بعضا ‬من ‬ذاكرة ‬حرب ‬أكتوبر، ‬من ‬بين ‬أبرز ‬تلك ‬الأعمال:‬
الرصاصة ‬لا ‬تزال ‬في ‬جيبي (‬1974):‬ ‬بطولة ‬محمود ‬ياسين، ‬وإخراج ‬حسام ‬الدين ‬مصطفى، ‬ويُعد ‬من ‬أولى ‬المحاولات ‬لتمثيل ‬الحرب ‬على ‬الشاشة. ‬الفيلم ‬ركّز ‬على ‬الجانب ‬الوطني ‬والعاطفي ‬أكثر ‬من ‬الفني ‬أو ‬التوثيقي، ‬وأنتهى ‬بمشاهد ‬حقيقية ‬من ‬العبور، ‬لكنها ‬جاءت ‬في ‬سياق ‬درامي ‬تقليدى ‬"جندي ‬يعود ‬من ‬الحرب ‬ليكتشف ‬خيانة ‬زوجته، ‬ثم ‬يشارك ‬في ‬حرب ‬أكتوبر، ‬حيث ‬يجد ‬خلاصه ‬في ‬المعركة ‬والنصر".‬
أبناء ‬الصمت (‬1974):‬ ‬فيلم ‬حربي ‬اجتماعي ‬من ‬إخراج ‬محمد ‬راضي، ‬حظي ‬بتقدير ‬نقدي ‬وجماهيري، ‬ورغم ‬بساطة ‬إنتاجه ‬إلا ‬أنه ‬حاول ‬تجسيد ‬التضحية ‬والبطولة ‬في ‬صفوف ‬الجنود، ‬واعتبر ‬أول ‬فيلم ‬حربي ‬مصري ‬يحقق ‬توازنًا ‬بين ‬الأداء ‬الفني ‬والبعد ‬الإنساني ‬للحرب.‬
الطريق ‬إلى ‬إيلات (‬1993)‬، ‬للمخرجة ‬إنعام ‬محمد ‬علي، ‬رغم ‬أنه ‬تناول ‬عملية ‬بحرية ‬جرت ‬قبل ‬حرب ‬أكتوبر، ‬مباشرة، ‬إلا ‬أنه ‬يُعتبر ‬الأقرب ‬لروحها، ‬ويمثل ‬واحدة ‬من ‬أنجح ‬الأعمال ‬الحربية ‬في ‬تاريخ ‬السينما ‬المصرية ‬من ‬حيث ‬الأداء، ‬والإخراج، ‬والتشويق، ‬ويُعد ‬من ‬أكثر ‬الأفلام ‬التي ‬لاقت ‬قبولًا ‬واسعًا ‬لدى ‬الجمهور، ‬نظراً ‬لتقنياته ‬الجيدة ‬نسبيًا ‬وروح ‬البطولة ‬التي ‬حملها.‬
العمر ‬لحظة (‬1978) ‬إخراج: ‬محمد ‬راضي، ‬بطولة: ‬ماجدة، ‬أحمد ‬زكي، ‬محمد ‬خيري، ‬أبرز ‬فيلم ‬عن ‬دور ‬المرأة ‬خلال ‬الحرب، ‬ويجمع ‬بين ‬الجوانب ‬الإنسانية ‬والحربية.‬
لكن ‬هذه ‬الأعمال، ‬برغم ‬أهميتها، ‬لم ‬تُنتج ‬ضمن ‬خطة ‬استراتيجية ‬لصناعة ‬سينما ‬وطنية، ‬بل ‬جاءت ‬كاجتهادات ‬فردية، ‬محدودة ‬التمويل ‬والرؤية.‬
الحرب ‬التي ‬غابت ‬عن ‬الشاشة ‬الكبرى
بمقارنة ‬بسيطة ‬مع ‬السينما ‬العالمية، ‬خاصة ‬الأمريكية، ‬التي ‬لم ‬تترك ‬حربًا ‬إلا ‬وجعلت ‬منها ‬عشرات ‬الأفلام ‬ذات ‬الميزانيات ‬الضخمة ‬والمؤثرات ‬البصرية ‬المبهرة ‬– ‬من ‬"إنقاذ ‬الجندي ‬رايان" ‬إلى ‬"1917" ‬و"العدو ‬على ‬الأبواب" ‬– ‬على ‬سبيل ‬المثال - ‬يتّضح ‬الفارق ‬الكبير.‬
السينما ‬المصرية ‬لم ‬تنتج ‬حتى ‬اليوم ‬فيلمًا ‬واحدًا ‬يروي ‬القصة ‬الكاملة ‬لحرب ‬أكتوبر، ‬من ‬تخطيط ‬الخداع ‬الاستراتيجي، ‬إلى ‬قرار ‬الحرب، ‬ثم ‬تفاصيل ‬العمليات ‬العسكرية ‬والضغوط ‬الدولية ‬التي ‬أدّت ‬إلى ‬وقف ‬إطلاق ‬النار.‬
هل ‬شاهدنا ‬مثلاً ‬فيلمًا ‬عن ‬الرئيس ‬السادات ‬في ‬غرفة ‬العمليات؟، ‬أو ‬عن ‬الفريق ‬سعد ‬الدين ‬الشاذلي ‬وخطط ‬العبور؟، ‬أو ‬عن ‬بطولات ‬الجيش ‬الثالث ‬في ‬الثغرة؟
الجواب: ‬لا.‬
أسباب ‬الغياب: ‬بين ‬التمويل ‬والسياسة
يرى ‬العديد ‬من ‬النقاد ‬والمشتغلين ‬في ‬صناعة ‬السينما ‬أن ‬أسباب ‬هذا ‬الغياب ‬متعددة:‬
أولا: ‬ارتفاع ‬كلفة ‬الإنتاج: ‬الأفلام ‬الحربية ‬تتطلب ‬معدات، ‬مواقع ‬تصوير ‬خاصة، ‬مؤثرات ‬بصرية، ‬وتدريبًا ‬عاليًا ‬للممثلين، ‬وهو ‬ما ‬لم ‬يكن ‬متاحًا ‬أو ‬مجديًا ‬اقتصاديًا ‬في ‬ظل ‬ضعف ‬عائدات ‬السوق ‬المحلي.‬
ثانيا:‬ ‬تحوّل ‬أولويات ‬السينما: ‬منذ ‬الثمانينيات، ‬حيث ‬تراجعت ‬مكانة ‬الفيلم ‬الوطني ‬لصالح ‬أفلام ‬الكوميديا ‬والدراما ‬الاجتماعية، ‬التي ‬تضمن ‬أرباحًا ‬أكبر ‬وتكلّف ‬أقل.‬
الجمهور ‬يريد.. ‬والسينما ‬تتأخر
رغم ‬مرور ‬أكثر ‬من ‬نصف ‬قرن ‬على ‬الحرب، ‬إلا ‬أن ‬الرغبة ‬الشعبية ‬في ‬مشاهدة ‬عمل ‬سينمائي ‬كبير ‬عنها ‬لم ‬تنتهِ. ‬يظهر ‬هذا ‬في ‬كل ‬مرة ‬يُعرض ‬فيها ‬فيلم ‬"الطريق ‬إلى ‬إيلات" ‬أو ‬"أبناء ‬الصمت" ‬على ‬التلفزيون، ‬إذ ‬تستعيد ‬هذه ‬الأفلام ‬نسب ‬مشاهدة ‬عالية ‬وتُعيد ‬الجمهور ‬إلى ‬تلك ‬اللحظة ‬التاريخية ‬الفارقة.‬
بل ‬إن ‬كثيرين ‬يرون ‬أن ‬الجيل ‬الجديد، ‬الذي ‬لم ‬يعش ‬الحرب، ‬بحاجة ‬إلى ‬عمل ‬سينمائي ‬يستطيع ‬أن ‬يقدم ‬له ‬الصورة ‬الكاملة ‬لما ‬حدث، ‬بعيدًا ‬عن ‬المبالغات ‬أو ‬التهوين، ‬في ‬صيغة ‬فنية ‬جذابة ‬وإنسانية ‬عميقة.‬
والسؤال:‬ ‬ماذا ‬نحتاج؟.. ‬نحتاج ‬مشروع ‬وطني ‬لا ‬يقل ‬عن ‬الحرب ‬نفسها.‬
إذا ‬كانت ‬معركة ‬العبور ‬قد ‬تطلبت ‬إعدادًا ‬لوجستيًا ‬وسياسيًا ‬وعسكريًا ‬استمر ‬سنوات، ‬فإن ‬تصويرها ‬سينمائيًا ‬لا ‬يقل ‬أهمية ‬عن ‬ذلك، ‬بل ‬يحتاج ‬إلى: ‬رؤية ‬فنية ‬وطنية ‬جادة، ‬توازن ‬بين ‬الدقة ‬التاريخية ‬والجاذبية ‬الدرامية، ‬ودعم ‬حكومي ‬واضح، ‬خاصة ‬من ‬القوات ‬المسلحة ‬ووزارة ‬الثقافة، ‬لتوفير ‬المعلومات ‬والمواقع ‬والدعم ‬اللوجستي.‬
ومشاركة ‬كتاب ‬سيناريو ‬كبار ‬ومخرجين ‬من ‬ذوي ‬الخبرة، ‬وربما ‬تعاون ‬عربي ‬أو ‬حتى ‬دولي ‬لضمان ‬خروج ‬العمل ‬بمستوى ‬عالمي.‬
هل ‬ما ‬زال ‬الأوان ‬ممكنًا؟
نعم، ‬ما ‬زال ‬ممكنًا ‬– ‬بل ‬وضروريًا ‬– ‬أن ‬تقدّم ‬السينما ‬المصرية ‬فيلمًا ‬عظيمًا ‬عن ‬حرب ‬أكتوبر. ‬ليس ‬فقط ‬لتخليد ‬ذكرى ‬النصر، ‬بل ‬لتقديم ‬دروس ‬في ‬التخطيط، ‬والإرادة، ‬والتضحية، ‬ولتذكير ‬الأجيال ‬المقبلة ‬أن ‬هناك ‬لحظات ‬في ‬تاريخ ‬الأمم ‬لا ‬يجب ‬أن ‬تُنسى، ‬ولا ‬أن ‬تُختصر ‬في ‬مشهد ‬عابر ‬أو ‬خطاب ‬حماسي.‬
لقد ‬حان ‬الوقت ‬لأن ‬تُنجز ‬السينما ‬ما ‬أنجزه ‬الجيش ‬قبل ‬52 ‬عامًا.‬