كتبت: مرفت عمر في ربيع السينما الإيطالية والأوروبية في ستينيات القرن الماضي، بزغ نجم ممثلة شابة قادمة من تونس، لتصبح رمزاً للجمال الناعم، والتمثيل الممزوج بالموهبة والمتوهج بالعاطفة، إنها كلاوديا كاردينالي، الممثلة الإيطالية – التونسية المولد، التي استطاعت أن تكتب اسمها بحروف من ذهب في تاريخ الفن السابع، وأن تحفر بصمتها في ذاكرة الجمهور العالمي، ورغم أن مسيرتها ارتبطت بكبار المخرجين الإيطاليين مثل فيسكونتي وفلليني، إلا أن بداية اكتشافها ارتبطت ارتباطاً وثيقاً باسم مصري خالص، هو النجم العالمي عمر الشريف، الذي كان له دور في لفت الأنظار إليها، ليصبح بذلك أحد مفاتيح عبورها إلى الأفق العالمي. ولدت كلاوديا كاردينالي في مدينة حلق الوادي القريبة من العاصمة التونسية عام 1938، وسط عائلة إيطالية الأصل استقرت في شمال أفريقيا، لم تكن تفكر يوماً في أن تصبح ممثلة، إلى أن شاركت مصادفة في مسابقة "أجمل فتاة إيطالية في تونس" عام 1957، وفازت بها، الجائزة كانت رحلة إلى إيطاليا، وهناك بدأت مسيرة جديدة لم تكن تخطر ببالها. في إيطاليا التقت بالمخرج والمنتج فرانكو كريستالدي، الذي أصبح فيما بعد زوجها، وكان له دور محوري في إدخالها إلى عالم السينما، لكن نقطة التحول الكبرى جاءت عام 1963 عندما ظهرت إلى جوار عمر الشريف في فيلم "جحا"، وهو الدور الذي اعتبرته جواز سفرها إلى قلوب النقاد والجمهور على السواء، ومن هنا بدأ اسمها يتردد بقوة في الدوائر السينمائية الأوروبية. إقرأ ايضا: تعاونت مع عمر الشريف وكرمت من القاهرة السينمائي.. من هي الراحلة كلوديا كاردينالي علاقة كلاوديا كاردينالي بعمر الشريف لم تكن مجرد صدفة مهنية، بل كانت بمثابة لحظة فاصلة في مسيرتها فالشريف، الذي كان قد لمع نجمه في مصر ثم في أوروبا قبل أن ينطلق إلى هوليوود، قدم لها فرصة الظهور في عمل سينمائي مشترك فتح لها أبواب الشهرة. لطالما تحدثت كاردينالي في حواراتها عن احترامها لعمر الشريف، معتبرة أنه كان من أوائل الذين آمنوا بموهبتها، والأهم أنها رأت فيه فناناً ذا شخصية آسرة استطاع أن يكون جسراً بين السينما العربية والأوروبية، وهو ما جعلها تحتفظ بذكريات خاصة معه، وفي أكثر من مناسبة أشارت إلى أن الشريف لم يكن مجرد ممثل عالمي، بل إنسان مثقف ومنفتح، يعي معنى أن تكون جسراً بين الشرق والغرب. بعد تجربتها مع عمر الشريف، انطلقت كاردينالي بسرعة لتصبح إحدى أهم نجمات السينما الإيطالية، عملت مع المخرج لوشينو فيسكونتي في "روكو وإخوته" (1960) و"الفهد" (1963)، كما شاركت في "ثمانية ونصف" لفلليني، حيث كرّست مكانتها كأيقونة للجمال والفن الراقي. هوليوود بدورها لم تقاوم سحرها، فظهرت في أفلام بارزة مثل "النمر الوردي" (1963)، و"المحترفون" (1966)، وصولاً إلى تحفتها "حدث ذات مرة في الغرب" (1968) مع سيرجيو ليوني، ورغم كل هذه النجاحات، كانت حريصة على ألا تتحول إلى "كليشيه"، فعادت في السبعينيات إلى السينما الإيطالية والفرنسية، حيث قدمت أدواراً أكثر عمقاً وجرأة. لم تكن مصر بالنسبة لكلاوديا كاردينالي مجرد بلد صدف أن صورّت فيه أحد أفلامها المبكرة، بل كانت محطة وجدانية وإنسانية، فقد شاركت في مهرجانات مصرية كبرى، من بينها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، حيث احتفى بها النقاد والجمهور على حد سواء. وجودها في القاهرة ارتبط دائماً بعلاقة الود التي جمعتها بعمر الشريف، كما أنها كانت ترى في السينما المصرية نموذجاً عربياً يستحق التقدير والاحتفاء، كثيراً ما تحدثت عن إعجابها بالمخرجين المصريين الذين سعوا إلى تقديم سينما جادة تعكس قضايا المجتمع. وأقيم تكريما لها وبحضورها عروضا لأفلامها في تونسمسقط رأسها، وفي افتتاح "Cité de la Culture" ومبنى السينما التونسيّة، وتدشين Cineteca تونسية تحت رعايتها، مما يدل على تماسك علاقاتها الفنية والثقافية مع بلادها الأم. في مقابلة عندما تم تكريمها في تونس، وصفت تونس بأنها "أرض ترحّب بالناس" وأعربت عن تعاطفها مع المهاجرين واللاجئين، قائلة إن مفتاح الإنسانية هو كيف نستقبل الآخر والمهجّر. كذلك، في مهرجان القاهرة عام 2015، قالت عبارات مثل "أحب مصر" ودعت إلى أن يعود السياح، مما يدل على ودّ وتقدير، كما تم تكريمها في عدة دول عربية منها مهرجان وهران للفيلم العربي بالجزائر. من أبرز المواقف التي رسخت اسم كلاوديا كاردينالي كفنانة صاحبة موقف، الدفاع عن حقوق المرأة والعدالة الاجتماعية، حتى إنها اختيرت عام 2000 سفيرة للنوايا الحسنة للأمم المتحدة، هذا الانحياز للقضايا الإنسانية جعلها تحظى بمكانة خاصة في قلوب الجماهير العربية، التي رأت فيها رمزاً للصدق الفني والمبدئي. على الرغم من أن مسيرتها الفنية شهدت تعاوناً مع عمالقة السينما العالمية، ظل اسم عمر الشريف حاضراً في ذكرياتها، لم يكن مجرد زميل عمل، بل صديقاً ومُلهمًا، وربما نافذة أولى على العالم العربي الذي احتضنها لاحقاً. وعندما رحل الشريف عام 2015، عبّرت كاردينالي عن حزنها البالغ، واصفة إياه بأنه كان سفيراً حقيقياً للسينما العربية على الساحة العالمية، هذا الارتباط العاطفي والمهني ظل جزءاً من صورة كلاوديا في الذاكرة المصرية والعربية. برحيل كلاوديا كاردينالي، تفقد السينما العالمية واحدة من ألمع نجماتها، سيرتها تظل شاهداً على جيل من الفنانين الذين لم يكونوا مجرد وجوه جميلة، بل رموزاً ثقافية عابرة للحدود. لقد كانت مثالاً للفنانة التي جمعت بين الموهبة والموقف، بين السحر السينمائي والالتزام الإنساني، وبين الشرق الذي ولدت على ضفافه في تونس، والغرب الذي صنعت فيه مجدها الفني. وكأنها بذلك تجسيد حي لمعنى الجسر الثقافي الذي بدأه عمر الشريف، وظل ممتداً عبرها حتى آخر أيامها. بصمات لا تنسى: "Goha" (1958 / 1959 فرنسا ‒ تونس) هذا هو أول ظهور سينمائي لكلاوديا كاردينالي إلى جانب عمر الشريف في فيلم فرنسي-تونسي. رغم أن الدور لم يكن الدور الرائد الأول، إلا أنه مهم جداً لأنه أوّل خطوة رسمت ملامحها الفنية، وأتاحت لها دخول الأوساط السينمائية العالمية عبر مهرجانات مثل كان، هذا الفيلم يُعد أساسياً في ربطها بالسينما العربية وشراكتها الأولى مع عمر الشريف، ما فتح لها مسارات أوسع. "The Leopard" (Il Gattopardo, 1963) من الأفلام التي تُعدّ تحفة سينمائية، إخراج لوتشينو فيسكونتي، تصوير رائع، تصميم ملابس مبهِر، والموسيقى والمونتاج في السياق الدرامي الذي يمزج بين التواري الزمني والتغير الاجتماعي، شخصية أنجيليكا التي لعبتها كاردينالي كانت رمزًا للإلتقاء بين الجمال، البرجوازية الجديدة، والطموح الاجتماعي، وعاملا مؤثرا في صراع التصنيف الاجتماعي والتحولات التي تحدث في المجتمع العرَّوبي-الإيطالي آنذاك، الفيلم رسّخ شهرتها لأنها لم تكن فقط وجه جميل، بل ممثلة قادرة على التفاعل مع شخصيات مركبة والتعبير عن تناقضاتها. "Girl with a Suitcase" (La Ragazza con la Valigia, 1961) دورها في هذا الفيلم يُبرزها بوصفها امرأة قادرة على إعطاء عمق إنساني لأدوارها، البُعد الدرامي للفيلم من حيث قضية الحب المكسور، التوق إلى التقدير، والانعكاسات الاجتماعية على شخصية "Aida" وجروحها الناتجة عن علاقات غير متوازنة، كلها سمات أكسبتها ثقة النقاد والجمهور. أفلام أخرى مؤثرة مثل "81⁄2" لفديريكو فيليني، حيث شاركت في أحد الأدوار التي يتم التعامل معها بصيغة الفن المكثف النفسيا، مما زاد من رصيدها الفني، أيضا أفلام مثل "Once Upon a Time in the West" وغيرها التي أظهرت كاردينالي في سياقات سينمائية متعددة (الغرب، التشويق، الإثارة) مما وسّع من جمهورها بين أوروبا وأمريكا.