مرت عليه ساعة وكأنها دهر.. ساعة ملأ فيها الرعب قلبه.. ولن ينساها مدى عمره.. وانذرفت الدموع من عينيه وهو يبكي في صمت.. يردد "ليتك ياعمي ضربتني علقة ساخنة، كانت ارحم بكثير مما فعلت بي!". السطور التالية تروي أصعب ليلة قضاها الفنان الراحل نور الشريف، بحسب مانشرت مجلة آخر ساعة عام 1978. بعد أن حصل على شهادة الدراسة الاعدادية بمجموع 76%، وكان هذا المجموع يحصل عليه المتفوقين في ذاك الوقت، وقبل أن يترك مدرسة بمبا قادن الاعدادية، والتحق بمدرسة الإبراهيمية الثانوية.. وقف قليلا ليودع حارة الصايغ بحي الخليفة الذي أمضى فيها طفولته التي لم يستطع أن يقول أنها طفولة سعيدة ولكن كان يشوبها نوعا من الحزن والتأمل. انتقل الى منزل جديد قام عمه ببناءه في حي السيدة زينب، لكن ذكريات حارة الصايغ لاتزال محفورة في نفسه، ولن ينسى اول مرة خفق فيها قلبه بالحب حين اقترب من سن الثانية عشرة، هذه السن التي تشتعل فيها مشاعر المراهقة، ويتخيل المراهق أنه يحب ويعاني في حبه، وأن حبيبته لاتشعر به. وكثيرا ماكان يجلس بجوار أقرانه على حجرين كبيرين أمام المنزل في حارة الصايغ لمغازلة الفتيات اللاتي يسرن في الطريق. خفق قلبه لابنة الجيران السمراء الفاتنة التي أثارت انتباهه حين التقت نظراتهما وهي تنظر من طرف شيش النافذة، حيث كانت التقاليد في الأحياء الشعبية ألا تنظر الفتاة من شرفة بيتها، لكن الفتيات كن يختلسن النظرات من وراء النافذة. بدأ يهتم بها، وانتظرها وهي عائدة من مدرستها، ويبتسم لها إذا التقت نظراتهما وبتفكير الصبية في هذه السن شعر بأنه يحبها، ولم يفكر في أبعد من هذا، وكان حبه لها حبا بريئا طاهرا، وأن أفكار المراهقة لم تخطر بذهنه اطلاقا. وفي هذه الاثناء لمح ابن صاحب المقهى المجاورة لبيته، والذي كان ينافسه في حبها والذي كان أيضا طويل القامة، ضخم الجثة يتمتع ببنية قوية، بينما كان هو هزيلا شاحب الوجه، وكانت الفتاة تحس بمشاعرهما لكنها تفضل نور الشريف. اقرأ أيضًا | في ذكرى وفاته.. صلاح عبدالله يرثي نور الشريف بقصيدة مؤثرة مما أثار غيرة ابن صاحب المقهى الذي قرر أن ينتقم منه أمامها. وذات يوم تربص له حين لمح الفتاة تسير في الطريق، وكان نور الشريف في انتظارها، وفجأة انقض عليه كالوحش الكاسر وأمسك به وأوسعه ضربا، ولقنه علقة ساخنة، وكانت أول علقة يتلقاها في حياته وحاول أن يدافع عن نفسه، لكنه فوجئ بالفتاة تتدخل لانقاذه من بين براثن ابن صاحب المقهى والدفاع عنه، وكانت تضع في يدها ساعة ذهبية جديدة، فوالدها رجل ثري يمتلك مصنع للزجاج، بينما وهي تدافع عنه كسرت ساعتها الذهبية. أحس نور الشريف أن هذه الواقعة التي تسببت في كسر الساعة غيرت مشاعرها نحوه، وذهبت إلى عمه تشكو له، علت الدهشة وجهه حيث لم يكن يتصور ابدأ انها ستقدم على فعل هذا. وماإن عاد نور إلى البيت وجد عمه في انتظاره، وقد تغيرت ملامح وجهه من الغضب فقرر أن يوقع عليه العقاب، وكان عقابا قاسيا جدا، لم يضربه لكن اصطحبه إلى ورشة النجارة التي يمتلكها وقام بتقييد ساقيه بحبل إلى كتلتين كبيرتين من الخشب، وأنه يعلم جيدا أن الفئران تتخذ من الورشة سكنا لها. وجاء ميعاد انصراف عمه بالعودة إلى البيت بعد أن حل الليل فوحئ به يطفئ انوار الورشة وإغلاق الباب العمومي، وتركه بمفرده تنتابه حالة الهلع والفزع من الفئران التي خرجت بحثا عن الطعام، ومرت عليه ساعة وكأنها دهر، ساعة ملأ فيها الرعب قلبه.. ساعة لن ينساها مدى عمره، وانذرفت الدموع من عينيه ساخنة وهو يبكي في صمت، ويردد.. "ليتك ياعمي ضربتني علقة ساخنة.. كانت أرحم بكثير مما فعلت بي.