تقف فرنسا على أعتاب منعطف سياسي حاسم في أعقاب سحب الثقة من حكومة رئيس الوزراء فرانسوا بايرو من قبل الجمعية الوطنية، وذلك بسبب رفض نواب البرلمان لمشروع الموازنة التقشفية المخصصة لعام 2026، ما يمثل الإخفاق الثاني لرئيس حكومة يختاره الرئيس إيمانويل ماكرون منذ قراره المفاجئ بحل البرلمان في عام 2024. سباق الوقت والحسابات السياسية كشفت مصادر مطلعة في الإليزيه لصحيفة "لو باريزيان" أن الأولوية القصوى تتمثل في "المضي قدماً بوتيرة سريعة لتسمية رئيس حكومة جديد"، حيث يخطط ماكرون للكشف عن اختياره "مع بداية يوم الثلاثاء الموافق 9 سبتمبر". وليس هذا الإسراع اعتباطياً، فالرئيس الفرنسي يسعى لتفادي الاصطدام بالإضراب الشامل المزمع في 18 سبتمبر والذي حشدت له النقابات العمالية. كما يأتي هذا التوقيت قبيل مشاركة ماكرون في اجتماعات الأممالمتحدة، حيث ينوي الإعلان رسمياً عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية. ويوضح أحد مستشاري الرئاسة أن "الظروف اليوم مختلفة كلياً، إذ حظي بفترة أسبوعين متكاملين للإعداد"، منذ مفاجأة بايرو في 25 أغسطس حين أعلن نيته طلب ثقة البرلمان. المقرب من دوائر السلطة يتصدر وزير الدفاع سيباستيان لوكارنو قائمة المرشحين المحتملين، حيث يصفه مقربون من ماكرون في تصريحات ل"لو باريزيان" بأنه "رفيق ماكرون الذي تشاركا الصيف في بريجانسون والمحادثات الهاتفية المستمرة". هذا التقارب الشخصي، بالإضافة إلى تجربته العسكرية، قد يدفع ماكرون للثقة به أخيراً وتسليمه زمام الحكومة. وتكشف "بوليتيكو" أن لوكورنو بدأ يوم الاثنين الفائت حملة تواصل مكثفة مع الشخصيات اليسارية، مركزاً على رؤساء البلديات والقيادات المحلية لطمأنتهم حول توجهه نحو سياسات أكثر مرونة، وفقاً لما أكده أحد المخضرمين في التيار الماكروني. الفرصة الثانية المرتقبة تظهر وزيرة العمل الأسبق من الحزب الجمهوري كاثرين فوترين كخيار جدي، لا سيما بعد أن كانت قريبة من الحصول على هذا المنصب عام 2022. ويكشف مصدر من حزب "النهضة" لصحيفة "لو باريزيان" أن ماكرون "يأسف" لعدم اختيارها قبل عامين ويحمل "استياءً من كل من أقنعه باختيار إليزابيت بورن". وتشير "بوليتيكو" إلى أن فوترين من جانبها "تواصلت مع نواب يساريين تربطها بهم معرفة وثيقة"، مما يدل على استعدادها لمد جسور التعاون مع مختلف التيارات السياسية. كاثرين فوترين وسيباستيان لوكارنو الحلقة الوسطى مع اليسار يبرز وزير الاقتصاد إيريك لومبار كالمرشح الأكثر قبولاً لدى اليسار، نظراً لصداقته مع فرانسوا هولاند وأوليفيي فور، وكونه عضواً سابقاً في الحزب الاشتراكي قبل عقدين من الزمن. كما يعلق أحد زملائه لشبكة "فرانس إنفو": "إنه يجيد التحدث بلهجتهم السياسية". موقف لومبار المعتدل، الداعم للطبقة العاملة والرافض لإعادة ضريبة الثروة وتجميد إصلاح المعاشات، لكنه المنفتح على فرض ضرائب على الأغنياء، يجعله مقبولاً عبر طيف واسع من الأطراف. حتى أن أحد أعضاء مجلس الشيوخ اليساريين قال ل"فرانس إنفو": "أراه أفضل من برنار كازنوف". خيارات خارجية وإمكانيات مفاجئة يدرس ماكرون شخصيات من خارج الحكومة الراهنة، منها فرانسوا بارواه وكريستين لاجارد وتيري بريتون. كما يحظى كزافيي بيرتران، رئيس منطقة أوت-دو-فرانس والوزير الأسبق في حكومتي شيراك وساركوزي، باهتمام متزايد. يقول مصدر مقرب من ماكرون لصحيفة "لو باريزيان": "كان في المعارضة ضد رئيس الجمهورية، ونجح في تشكيل الجبهة الجمهورية، ويحاور الاشتراكيين. هذا يلبي معايير متعددة". حتى أن وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو علق على قناة "أل سي آي": "كزافيي بيرتران، على الأقل، ليس اشتراكياً. هذا تقدم إيجابي". البحث عن شراكة يسارية تكشف "بوليتيكو" عن قيام القصر الرئاسي بتوجيه دعوة لإحدى الشخصيات اليسارية المؤثرة "لمناقشة الأوضاع السياسية الراهنة في فرنسا واستكشاف إمكانية مشاركتها في تركيبة حكومية جديدة". في هذا الإطار، يطفو اسم برنار كازنوف، الذي ترأس الحكومة في عهد هولاند، كمرشح منطقي للمنصب، لكن قيادياً بارزاً في الحزب الاشتراكي يعارض هذا التوجه قائلاً لصحيفة "لو باريزيان": "لن نقع في خطأ الانجرار إلى هذا المصيدة السياسية. الحقيقة أن أي حكومة في الظروف الراهنة تفتقر للأغلبية البرلمانية. فلماذا يجازف اليسار بمصداقيته السياسية؟" التحدي الأساسي سيواجه أي رئيس وزراء قادم تحدي الحصول على تأييد 289 نائباً لتجنب سحب الثقة من البرلمان. هذا الوضع يدفع المعسكر الرئاسي للتفكير في تقديم تنازلات أساسية. يقول النائب الماكروني جان-رينيه كازنوف ل"فرانس إنفو": "أعتقد أنه لا بد من التوصل لتفاهم مع الحزب الاشتراكي. من الأجدى أن نقدم لهم تنازلات بمليارات قليلة بدلاً من مواجهة أزمة سياسية أخرى". ويضيف نائب آخر: "سيكون علينا اتخاذ خطوة، ربما بخصوص إصلاح المعاشات، وحتماً فيما يتعلق بضريبة الثروات الكبرى". بينما يحذر قيادي اشتراكي: "إذا كنا في موقع رئاسة الحكومة، يمكننا إنجاز أمور مهمة وبسرعة. وإذا لم نكن كذلك، فسنكون مستعدين للجلوس على طاولة التفاوض، لكن والخنجر بين أسناننا".