في مصر، مهد الحضارات وموطن الأزهر الشريف ومهوى أفئدة المسلمين، تحظى التلاوة القرآنية بمكانة خاصة في وجدان الناس ونسيجهم الثقافي والاجتماعي. فمن المساجد العتيقة إلى البيوت العامرة، يصدح القرآن الكريم بأصوات قراء عظام، أورثوا هذا الفن جيلًا بعد جيل، وقرنًا إثر قرن، فصار جزءًا حيًّا من المناسبات الدينية والاجتماعية، ومن الهوية الروحية للمجتمع المصري. اقرأ أيضا| a href="https://akhbarelyom.com/news/newdetails/4680140/1/%D8%A7%D8%AE%D8%AA%D8%AA%D8%A7%D9%85-%D9%81%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%A8%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84" title="اختتام فعاليات المسابقة القرآنية "دولة التلاوة" بأوقاف قنا"اختتام فعاليات المسابقة القرآنية "دولة التلاوة" بأوقاف قنا وفي هذا السياق، يقدّم الباحث محمد عاشور عملًا توثيقيًا فريدًا بعنوان "مائة عام من حكايات المشايخ والسميعة"، المقرر صدوره قريبًا، حيث يستعرض فيه تاريخ التلاوة في مصر خلال قرن كامل، منذ بزوغ نجم الشيخ أحمد ندا (1852 – 1932م)، الذي وضع الأسس الأولى لمدرسة التلاوة المصرية الحديثة وأرسى دعائمها. ويوثق الكتاب أبرز المحطات التي مرّ بها هذا الفن، من خلال حكايات وطرائف كبار المشايخ الذين أثروا تلك الحقبة، إلى جانب تسليط الضوء على جمهورهم الوفي المعروف باسم "السميعة"، الذين كانوا شركاء حقيقيين في صناعة هذا التراث. نشأة دولة التلاوة المصرية يبدأ الكتاب بمقدمة وتأصيل تاريخي يوضح نشأة ما عُرف ب "دولة التلاوة المصرية" وتفرّدها، كما يعرّف بمفهوم "العبقرية" في التلاوة باعتبارها فنًا يجمع بين الإتقان الصوتي، والتأثير الروحي، والإبداع الواعي في الأداء. ويبرز هذا الجزء الدور المحوري لإذاعة القرآن الكريم في ترسيخ مكانة القراء ونشر تلاواتهم داخل مصر وخارجها. نوادر المشايخ وطرائفهم ينتقل الكتاب بعد ذلك إلى عالم النوادر والطرائف التي عاشها كبار المشايخ، كاشفًا الجوانب الإنسانية في حياتهم، منذ الطفولة وحتى النجومية. ويروي قصصًا طريفة ومواقف محرجة تعاملوا معها بذكاء، كما يبرز خصالهم من كرم وتواضع، ويعرض حكايات عن براعتهم في المقامات والأداء، ورحلاتهم التي حملت صوت التلاوة المصرية إلى أنحاء العالم. «السميعة».. جمهور استثنائي يسلط الكتاب الضوء على جمهور القراء، أي «السميعة»، وهو جمهور خاص تميز بذائقة عالية وحسّ نقدي دقيق. يستعرض المؤلف شغف هؤلاء المتابعين الذين كانوا يقطعون مسافات طويلة لحضور محافل مشايخهم المفضلين، ويسجلون التلاوات بأنفسهم قبل ظهور وسائل الإعلام، ويشاركون في نشرها. كما يروي قصصًا عن تأثير التلاوة في حياتهم، حتى إن بعضهم اتخذ قرارات مصيرية تحت وقع صوت قارئه المفضل. ويؤكد الكتاب أن العلاقة بين السميعة والقراء لم تكن علاقة مستمع بمتحدث فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى مشاركة فعلية، إذ كانوا يحفظون تلاوات مشايخهم عن ظهر قلب، ويقلدون أساليبهم، ويعرفون مواعيدهم بدقة، الأمر الذي جعل هذه الظاهرة تسهم في تشكيل الهوية الدينية والاجتماعية للمجتمع المصري. دروس وعِبَر خالدة ويختتم الكتاب بفصل يتناول الدروس والعبر المستفادة من نوادر المشايخ والسميعة، مبرزًا القيم التي يجسدها هذا التراث مثل الإخلاص، والصدق، واحترام الكلمة القرآنية. كما يضم هذا الجزء مسردًا للمصطلحات الخاصة بالتلاوة والمقامات الموسيقية، بالإضافة إلى صور ووثائق تاريخية نادرة، تُثري المحتوى وتمنحه بعدًا توثيقيًا أصيلًا. ولا يكتفي الكتاب بتوثيق تاريخ التلاوة المصرية، بل يبرز أيضًا دور «السميعة» باعتبارهم أكثر من مجرد جمهور، فهم جزء لا يتجزأ من مسيرة الحفاظ على التراث القرآني وصونه للأجيال المقبلة.