صباح لم يكتمل ضوؤه بعد، وشمس الأدب العربى تفقد أحد أنصع أقلامها، رحل صنع الله إبراهيم عن عمر ناهز 88 عاما بعد رحلة صراع مع المرض وتم تشييع الجثمان عصراليوم من مسجد آل رشدان بمدينة نصر وسط حضور الأساتذة والتلاميذ الذين حرصوا على التواجد فى الوداع الأخير.. صنع الله إبراهيم هو ذاته الكاتب الذى ظل نصف قرن يفضح العتمة، ويراقب هذا العالم بعين لا تعرف المداراة، لم يكن يكتب ليُعجب، بل ليوقظ، وليترك فى قلب قارئه ندبة لا تندمل، عاش ومات وفى يده ورقة بيضاء وقلم أسود، لا يلون الحقائق، ولا يخفف حدتها، حتى وإن جرح بها القريب قبل البعيد، غادرنا وهو يبتسم بسخرية تاركا خلفه صفحات مشبعة بالصدق، وأدبا لا ينحنى إلا لضمير صاحبه. ولد فى القاهرة عام 1937، وبدأ حياته الأدبية متسمًّا بالتمرد الفكرى، حتى دفعه ذلك إلى السجن خمس سنوات «1959-1964» فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، هذه التجربة القاسية لم تُضعفه، بل جعلته يُنَقّب بجرأة فى أعماق الذات والمجتمع على السواء. تميزت أعماله بالارتباط الوثيق بين سيرته الذاتية والسياق السياسى المصرى والعربى، استخدم السخرية والمَرَح كأداة نقد قاسية فى روايته الشهيرة «اللجنة» «1981»، ليعيّر سياسة الانفتاح فى عهد السادات، وفى «بيروت.. بيروت» جسّد الدمار اللبنانى والرعب فى الحرب الأهلية بروح سردية تتقاطع مع الوثائق، فتترك أثراً حياً فى ذهن القارئ.. روايته «شرف» «1997» اختيرت ثالث أعظم رواية عربية فى تصنيف اتحاد الكتاب العرب، ومن أعماله الأخرى ذات البصمة القوية: «وردَة» التى تروى قصة الثورات الاشتراكية العربية وتجمع بين هزيمة الأيديولوجيات وعذابات الأفراد، و«العمامة والقبعة» «2008»، رواية تأريخية ساخطة تلامس الاستعمار والعلاقة المعقدة بين الشرق والغرب. عاش فى شقة متواضعة على أطراف القاهرة، بعيداً عن ضوضاء النجومية، رغم أنه لو أراد أن يسكن فى قصر.. لسكن، لكنه رفض كل ذلك ليبقى فى قلب وعقل وضمير مصر. عندما مرض، اجتمعت المواقع والمؤسسات على التضامن معه، فجاء ذلك التضامن شاهدًا على عمق تأثيره الأدبى والإنسانى: «لم يكن يسعى ليُحَب... بل ليقلق، وهذا أعظم ما يمكن أن يفعله كاتب فى هذا العالم الكسول»، وهو مشروع مساءلة وموقف أخلاقى لا يخضع للاستهلاك أو المداهنة».. صُنع الله إبراهيم ليس مجرد اسم على غلاف رواية، هو الوجه الذى كتب بدمه، وتفجر من بوح الثورة الفكرية، إن رحيله ليس خسارة أدبية فحسب، بل خلل فى بنية ضمير الكتابة النقية، التى لا تتاجر بضمير أو تتلطى وراء تلفيق.. فلنستودع كلمات صموده، ولتُمنح كتاباته مكانًا فى ذاكرة قارئٍ يعى أن الأدب لا يُكتب إلا بجرأة القلب وانكسار الرأس.